أمیرکا ترید البقاء فی العراق
لا یختلف اثنان على أن استهداف البعثات الدبلوماسیة الأجنبیة فی العراق أمر خاطئ ویطلق رسائل سلبیة عدیدة، لعل من بینها انعدام الأمن فی البلاد، وعجز الحکومة عن توفیر الحد المعقول والمقبول من الحمایة للمؤسسات المحلیة أو الأجنبیة، ناهیک عن المواطن العادی.
وحینما تتعرض بعثات دبلوماسیة أجنبیة لاعتداءات متکررة خلال فترات زمنیة قصیرة، دون تشخیص وتحدید الجهات المتورطة، فهذا یؤشر إلى خلل کبیر وفاضح فی الأداء الأمنی تتحمله بالدرجة الأساس السلطة التنفیذیة متمثلة بالقائد العام للقوات المسلحة والمفاصل الأمنیة والاستخباراتیة الخاضعة لإشرافه العام.
وتأخذ الأمور أبعادًا أخرى حینما توجه أصابع الاتهام ضمنًا أو صراحة الى الحشد الشعبی، وهذه بلا شک اتهامات خطیرة یراد من ورائها خلط الأوراق، ومن غیر المستبعد أن تکون الجهات التی توجه مثل تلک الاتهامات وتحاول تسویقها عبر منابر سیاسیة وإعلامیة مختلفة، هی ذاتها التی تقف وراء استهداف وقصف البعثات الدبلوماسیة، وإلا هل یعقل أن تقدم مؤسسة أمنیة تخضع للسیاقات الرسمیة على خطوات من هذا القبیل؟ وما الفائدة الحقیقیة التی یمکن أن تتحقق من وراء ذلک؟ هذا ما تحدثت به العدید من الشخصیات السیاسیة، فی ذات الوقت الذی حذرت فیه من خطورة هذه السیناریوهات ودعت الجهات المسؤولة الى الکشف عن کل الخفایا والأسرار والحقائق.
إن تتبع خیوط عملیات قصف البعثات الدبلوماسیة من شأنه أن یساهم فی إماطة اللثام عمن یقف وراء إرباک الأوضاع الأمنیة ویسعى لإعادة البلاد إلى المربع الأول.
ویبدو أن قراءة تفاعلات المشهد الأمنی والسیاسی الراهن فی العراق لا تکتمل من خلال تحلیل خلفیات وأسباب ودوافع ومعطیات وتداعیات لعبة الصواریخ التی تطلق بین الفینة والأخرى، دون التوقف عند أحداث ووقائع أخرى، والبحث عن نقاط الترابط ومحطات الالتقاء فیما بینها.
الحدیث عن "لعبة" الصواریخ الموجهة الى البعثات الاجنبیة والمطارات والقواعد العسکریة، فی بغداد واربیل وصلاح الدین، لا ینبغی ان یفضی الى اهمال حقیقة وماهیة الخروقات الداعشیة المتکررة خلال الاسابیع او الشهور القلائل الماضیة فی اکثر من محور، واغلبها استهدفت قوات الحشد الشعبی وتسببت باستشهاد العشرات، بینهم قادة میدانیون، علما ان التنسیق بین المؤسسات والاجهزة الامنیة والعسکریة العراقیة ینبغی ان یکون بمستوى عال، فضلا عن التنسیق والتواصل بین تلک المؤسسات والاجهزة من جانب، وقوات ما یسمى بالتحالف الدولی المتواجدة على الارض وفی السماء.
الى جانب ذلک، فإن معظم المناطق التی شهدت خروقات لعصابات "داعش" الإجرامیة، کانت قبل عدة أعوام خاضعة لسیطرة تلک العصابات بصورة شبه کاملة، إن لم تکن کاملة، ناهیک عن وجود العدید من الحواضن لها من البیئة الاجتماعیة هناک، وهو ما أتاح لـ"داعش" الذی انهزم فی المیدان، أن یعید تنظیم جزء من صفوفه بصیغة الخلایا النائمة. ولعل العملیة النوعیة الأخیرة فی منطقة الطارمیة شمال العاصمة بغداد، أشارت بوضوح الى ذلک الأمر، وجاءت فی الوقت المناسب، لأنها بحسب ما أکد قادة أمنیون، ساهمت بإحباط مخطط کبیر لاستهداف مناطق فی العاصمة بعملیات إرهابیة بواسطة سیارات مفخخة وانغماسیین، دون إغفال دلالات التفجیرات الإرهابیة الانتحاریة التی وقعت فی ساحة الطیران وسط بغداد فی الواحد والعشرین من شهر کانون الثانی - ینایر الماضی، بعد هدوء وتوقف لمثل تلک العملیات دام حوالی عامین.
نقطة الوصل والالتقاء بین الهجمات الصاروخیة على البعثات الدبلوماسیة الأجنبیة وبعض المواقع الأخرى، وخروقات "داعش" الأمنیة، تتمثل فی توفیر وتهیئة الأرضیات المطلوبة لإطلاق الدعوات من داخل العراق وخارجه لإبقاء القوات الأمیرکیة - الأجنبیة على أرض البلاد تحت ذریعة عدم استقرار الأوضاع الأمنیة وبقاء التهدیدات.
فهناک الیوم فی بغداد، کما هو الحال فی واشنطن وعواصم أخرى، من یسوّق ویروج لبقاء - بل لزیادة - القوات الأمیرکیة والأجنبیة فی العراق تحت ذریعة "أن مسلحی "داعش" ما زالوا موجودین فی أطراف المدن والقرى والمناطق النائیة، وهذا ما یضع الکثیر من العراقیل أمام وصول القوات العراقیة إلى تلک المناطق الخطرة ومکافحة تلک العناصر التی تختبىء فی الصحراء الواسعة والکهوف والجبال".
وعلى ضوء هذه الرؤیة المرتبکة، یذهب من یتبنونها الى "أن هناک من یتفق على بقاء القوات الأمریکیة وربما زیادة عددها أکثر من السابق، بعد أن أقدم ترامب على إغلاق مراکز التدریب والقواعد العسکریة وأبقى فقط على قاعدتین فی أربیل شمال العراق، وقاعدة عین الأسد غرب محافظة الأنبار".
وهذا ما یتناقض تمامًا مع ثوابت المرجعیة الدینیة ومطالب الحراک الجماهیری السلمی، ومزاج الشارع العراقی على وجه العموم، وکذلک یتقاطع مع قرار مجلس النواب الصادر فی الخامس من شهر کانون الثانی - ینایر من العام الماضی 2020، القاضی بإلزام الحکومة بإخراج القوات الاجنبیة من البلاد.
وبما أن الأجواء والظروف السیاسیة والشعبیة غیر مهیأة لفکرة بقاء القوات الأمیرکیة، ناهیک عن زیادة أعدادها، فلا بد لواشنطن ومن معها، البحث عن بدیل مناسب، یضمن بقاء الأمور على حالها من حیث الجوهر، فی ذات الوقت الذی یؤدی الى تخفیف ردود الأفعال والمواقف الرافضة، ومن هنا جاء سیناریو زیادة أعداد قوات حلف شمال الأطلسی (الناتو) العاملة فی العراق، علمًا أن الفکرة لیست جدیدة، ولکن لم تتبلور الظروف المناسبة ولا الضرورات الملحة لترجمتها على أرض الواقع.
ویشیر استاذ العلوم السیاسیة والسفیر السابق قیس النوری، الى انه "فی ظل ثبات المصالح والأهداف الاستراتیجیة للبیت الأبیض، سوف تبقی واشنطن على هدف الإمساک بالعراق، والإبقاء علیه خارج التأثیر فی بیئته الإقلیمیة، کأحد الأهداف الإستراتیجیة لأمریکا و"إسرائیل"، وستخضع عملیة تقییم إبقاء القوات الأمریکیة من عدمه فی العراق وفق هذا الهدف والمعیار الإستراتیجی لدى واشنطن".
ونقطة الوصل والربط الثالثة مع "لعبة" القصف الصاروخی وخروقات "داعش"، هی الدعوة أو الإعلان عن التوجه الى زیادة أعداد قوات "الناتو" التی غالبًا ما یتردد أن "مهامها تدریبیة ولیست قتالیة"!، ویتردد کذلک ب"أن الوضع الأمنی یتطلب أن تکون هناک مساعدة لیس فقط من الولایات المتحدة الأمیرکیة، بل من الدول المتطورة أیضًا فی حلف "الناتو" للقضاء على الإرهاب الحقیقی الذی تعانی منه أیضًا دول الجوار ولیس العراق بمفرده".
وهذا التسویق، قوبل برفض عراقی قاطع، لم یکن أقل مستوى ووضوحًا من رفض بقاء القوات الأمیرکیة والإصرار على إخراجها من البلاد بأسرع وقت.
ولأن هناک استحقاقات سیاسیة مختلفة قادمة، أبرزها الانتخابات البرلمانیة المبکرة، فیما لو أجریت فی الموعد المحدد لها فی العاشر من شهر تشرین الأول - أکتوبر المقبل، الى جانب التحدیات الاقتصادیة والصحیة المقلقة، فإن الضغوطات الخارجیة معززة بمشاکسات ومشاغبات داخلیة ستتواصل من أجل توجیه الأمور بالمسارات التی ترغب بها وتخطط لها واشنطن وحلفاؤها، بصرف النظر عن غیاب ترامب وحضور بایدن.