هذا ما یریده بایدن من السعودیة؟

تأخر أکثر من سنتین الإفراج عن التقریر غیر السری للمخابرات الأمیرکیة المتعلق بجریمة اغتیال الصحافی جمال خاشقجی داخل القنصلیة السعودیة فی اسطنبول فی تشرین الاول اکتوبر 2018. ولم تتضمن العقوبات التی أعلنتها ادارة الرئیس جو بایدن إجراءات محددة بحق ولی العهد السعودی، برغم أنها اعتبرته الراعی الرسمی لعملیة الاغتیال من خلال القول ان الفریق المنفذ لم یکن لیتصرف على هذا النحو من دون العودة الى ولی العهد بالنظر الى إحکام الأخیر قبضته على الاجهزة الامنیة.

تقریر المخابرات الأمیرکیة لم یأت بمعلومة جدیدة تُذکر. المهم فیه هو تقدیر المخابرات لما جرى والمسؤولیات المترتبة، وقد جاء مخفَّف اللهجة بعد أسابیع عدة من المشاورات بین بایدن وفریقه، بهدف عدم حشر الحلیف السعودی فی الزاویة والإبقاء على منفذ أمامه لتعدیل سلوکه بما یتناسب مع سیاسات الحکومة الامیرکیة الجدیدة.

التقریر یطرح أسئلة متلازمة

هل تؤشر الخطوات التی اتخذتها الإدارة الإمیرکیة فی شأن جریمة اغتیال خاشقجی الى انعطافة فی العلاقات بین الجانبین، أم انها مجرد تسجیل نقاط لإعادة الاعتبار للقوة الناعمة الامیرکیة فی مجال ادعاء رعایة حقوق الإنسان، أم هی نهایة لمرحلة "التسامح" التی اتبعها الرئیس الأمیرکی السابق دونالد ترامب مع السعودیة وبدء علاقة على أسس جدیدة - قدیمة؟
 
مراجعة أمیرکیة
 
لنراجع أولًا الخطوات التی تمت حتى الیوم من قبل إدارة بایدن حیال المملکة السعودیة:
 
- وقف تزوید السعودیة، ومعها دولة الإمارات، بالأسلحة الهجومیة والدفع باتجاه إیجاد مخرج ما للورطة السعودیة المغطاة أمیرکیًا فی الیمن.

- الدعوة الى اطلاق سراح الناشطین الحقوقیین فی المملکة.

- وقف التواصل الأمیرکی مع ولی العهد السعودی وحصر الاتصال الرئاسی مع الملک سلمان.

- الإعلان عن مباشرة خطوات تدریجیة، ولو مشروطة حالیًا، للعودة الى الاتفاق النووی مع ایران.
- والأهم ربما، إعلان القطیعة مع عهد ترامب فی قضایا عدة، ومنها ما یتعلق بالتعامل مع السعودیة، وصولًا الى الإفراج عن تقریر غیر سری للمخابرات الأمیرکیة یتناول تقییمها لجریمة اغتیال الخاشقجی فی القنصلیة السعودیة فی اسطنبول ودور ولی العهد محمد بن سلمان فی الجریمة.

من الواضح أن الإدارة الجدیدة فی واشنطن لا تنسجم مع الطاقم الحالی الحاکم فی السعودیة، وتحدیدًا مع محمد بن سلمان الذی قبض على السلطة بالقوة وساق خصومه (وبعضهم على وفاق مع المسؤولین فی "الدولة العمیقة" فی امیرکا) الى السجون أو الإقامة الجبریة ویحاول شراء تأیید الحکومة الأمیرکیة على کل أفعاله المتهورة، من دون مراعاة بعض الضوابط الضروریة، معرّضاً القوة الأمیرکیة الناعمة لأضرار غیر حمیدة، خاصة مع استمرار الجرح البشری المفتوح فی الیمن. وهناک نقطة مهمة جدًا قد تکون الدافع الأساس فی التعامل الأمیرکی المستجد مع الریاض، وهی أن أوساط النخبة الأمیرکیة، لدى عامة الدیمقراطیین وحتى لدى بعض الجمهوریین، تشعر بسخط وریبة حیال العلاقة الخاصة جدًا بین ولی العهد السعودی والرئیس الأمیرکی السابق دونالد ترامب وحاشیته، ویرید الدیمقراطیون خاصة قطع هذه العلاقة وفضحها بمفعول رجعی. وهناک تیار تجدیدی فی الحزب الدیمقراطی یرید الذهاب أبعد مما ذهب إلیه بایدن فی مقاربة هذا الملف، لکن الرئیس الأمیرکی فضّل مقاربة تقلیدیة تفصل بین العلاقة مع ولی العهد السعودی والعلاقة مع الحکومة السعودیة، برغم أن الأول یقبض على ناصیة الثانیة بشکل کامل على نحو غیر مسبوق. وحتى الملک السعودی لا یستطیع الفکاک من سلطة ابنه المفضَّل، ولهذا حکایة أخرى.

کیف ستکون ردة فعل السعودیة؟

لا یهم ما تقوله الروایة الرسمیة السعودیة بشأن محاکمة قتلة خاشقجی، فمآل المحاکمة - کما هو معروف - انتهى الى حصر التهم فی عدد من الأشخاص وإبعاد التهمة لیس عن ولی العهد فقط، بل عن معاونَیْه الأقربَیْن سعود القحطانی وأحمد العسیری، وإلغاء عقوبة الإعدام بحق القتلة، وحمْل عائلة المغدور على التنازل عن حقهم فی القصاص مقابل تعویض مالی (إجراء سعودی نموذجی فی مثل هذه الحالات). وبالطبع، لا یهمنا الآن استعادة تناقضات الروایة السعودیة الرسمیة التی استحالت روایات مفککة منذ بدایة الکشف عن جریمة الاغتیال.

بیدَ أن کل خطوة من الخطوات الأمیرکیة أعلاه کافیة لإغاظة الجانب السعودی الذی یشعر بخیبة أمل کبیرة منذ لحظة نهایة عهد ترامب الذی "استثمر" فیه ولی العهد السعودی مئات ملیارات الدولارات من أجل تغطیة سیاساته المندفعة على غیر صعید. ذهب ترامب، وذهبت الأموال السعودیة الى الخزینة والشرکات الأمیرکیة، وعادت المملکة السعودیة مکشوفة الرأس إزاء أجندة أمیرکیة تمثل امتدادًا لعهد اوباما. وأمام "لحظة الحقیقة" الأمیرکیة، سیتعین على الحکومة السعودیة أن تستوعب هذه المکاشفة غیر المکتملة من خلال:

- التقلیل من أهمیة الإجراءات الأمیرکیة والکلام عن أن القضاء السعودی قال کلمته فی القضیة.
- استثارة الحس الوطنی لدى السعودیین لإعادة الاعتبار لولی العهد الذی تلطخت صورته فی هذه الجریمة.
- الرهان على الوقت لتجاوز هذه المرحلة.
- تسریع العلاقة مع "اسرائیل" من أجل استخدام نفوذها فی واشنطن لتلطیف التعامل مع ولی العهد السعودی. وبهذا المعنى، یصبح التطبیع (المستتر حالیاً) ثمناً لتشریع وضع ابن سلمان فی واشنطن.
- التلویح للأمیرکیین بأن الریاض تبحث عن بدائل عن السلاح الأمیرکی لدى الصین وروسیا مثلاً، من أجل دفع واشنطن لتخفیف وطأة انتقاداتها للأمیر السعودی.
 
"احتواء ثلاثی"

لکن الحقیقة التی ینبغی أن لا تغیب عن البال أن أمیرکا لن تتخلى عن السعودیة لأسباب عدة:

- النفط.

- العلاقة مع "اسرائیل" حیث یُرتقب أن تکون الریاض رکنًا أساسیًا للتطبیع وتشریع وجود "اسرائیل" فی المنطقة، وهو محل اتفاق بین القوى السیاسیة المختلفة فی واشنطن.

- الاحتفاظ بالسعودیة ضمن أدوات العُدّة اللازمة للمواجهة الأمیرکیة مع إیران وصولًا الى احتواء الأخیرة.  

وجُل ما تریده إدارة بایدن أن تعید الریاضَ الى صفوف الرکاب بدلًا من أن تتولى السعودیة قیادة الولایات المتحدة الى حیث ترید فی المنطقة، لا سیما بعد أن أثبت ولی العهد السعودی تهورًا غیر مسبوق فی إدارة الشؤون الداخلیة وضعفًا فی الکفاءة حیال إدارة التحدیات الاقلیمیة. کما ترید إدارة بایدن استباق أی اعتراض سعودی أو غیر سعودی على العودة للاتفاق النووی مع ایران، وتبدید أیة محاولة من الریاض وغیرها لتکبیر حجم دورها بما یعکّر على الحکومة الجدیدة إدارة هذا الملف من منظور أولویات أمیرکیة مختلفة. وینبغی التوقف هنا عند نقطة مثیرة للانتباه وهی أن ادارة بایدن تعتمد "استراتیجیة احتواء" ثلاثیة للاعتراضات على الاتفاق النووی الذی تم التوصل الیه فی عهد الدیمقراطیین عام 2015. وتشمل هذه الإستراتیجیة الى جانب السعودیة، الإمارات و"اسرائیل". واضافة الى وقف التواصل الأمیرکی الرئاسی مع ابن سلمان ووقف إمدادات أسلحة هجومیة الى الریاض، أوقفت واشنطن أیضًا صفقات سلاح الى الإمارات، وسمحت فی توقیت مدروس بدقة بنشر صور أقمار اصطناعیة لعملیات إنشائیة فی مفاعل دیمونا الإسرائیلی، فی وقت انتظر فیه نتنیاهو أسابیع لتلقی اتصال من بایدن.

فی الخلاصة، تهدف الادارة الامیرکیة الجدیدة الى التخلص من إرث ترامب على صعد عدة وإعادة ضبط العلاقات الأمیرکیة - السعودیة على إیقاع أمیرکی صرف، لکن العدالة المنشودة توقفت عند محمد  بن سلمان.

لنتذکر:
 
- أن جثة جمال خاشقجی لم یُعثر علیها أبدًا، ویرفض الجانب السعودی الکشف عن مصیرها.

- أننا أمام تقریر أمیرکی غیر سری، ما یعنی أن الإدارة الأمیرکیة فضلت إبقاء حقائق سریة قید الکتمان لغایة الحفاظ على العلاقات مع السعودیة والاحتفاظ بولاء الریاض.

- أننا أمام إجراءات هزیلة بحق الضالعین فی الجریمة، فعدم منحهم تأشیرات دخول الى الولایات المتحدة هو أضعف الإجراءات فی ترسانة "العقوبات" الأمیرکیة الضخمة، وقد اکتفت واشنطن بالعقاب الأضعف.

- تم إبعاد الکأس المُرّة عن ولی العهد، برغم أن الرسالة المعنویة وصلت.

- من المهم ملاحظة تأثیر هذا الموقف على مواقف الدول الأوروبیة والمجتمع الدولی حیال ولی العهد السعودی الذی سیبقى فی کنف أبیه ما دام الأخیر حیًا.

یبقى السؤال: ماذا سیکون حال محمد بن سلمان بعد الملک الحالی؟ هل سیتم التغاضی عن ماضیه وتطبیع وضعه على مذبح المصالح الإستراتیجیة الأمیرکیة، أم أن فی بال واشنطن إعادة فتح مسار الخلافة فی المملکة السعودیة، وهو أمر غیر متیسر حالیًا بعد تحطیم ابن سلمان کل البدائل المحتملة؟

 




محتوى ذات صلة

ارسال التعلیق