عن إیران والدبلوماسیة الثوریة
منذ العام 1979 تواجه إیران نطاقاً واسعاً من الضغوط الدبلوماسیة لتغییر سلوکها، أو هدم نظامها، فی وقت یُثبت قائدها السید علی الخامنئی أنها کانت نموذجاً من النماذج الفریدة فی المقاومة السیاسیة والتعبئة المعنویة، ما منع الأعداء من کسر إرادتها وفرض مشیئتهم علیها. والدلیل الأبلغ خروجها منتصرة من معرکة التفاوض الأضنى والأشد فی تاریخ العلاقات الدولیة، من دون أن تتمکن أمیرکا وحلفاؤها من فرض شروطهم الإکراهیة، فی ما اصطلح علیه بـ«الملف النووی». فی الحقیقة، لم تکن أمیرکا ومعها الدول التی تشارکها القیم والمصالح تواجه قوة نوویة، بل قوة ثوریة. لا بالمعنى الأیدیولوجی والعسکری والاقتصادی فحسب، بل حتى بالمعنى الدبلوماسی، إذ تجتمع عناصر الإیمان الدینی والنضال المبدئی والعمل المبدع والعقلانیة والخبرة والجودة والحس الفنی والمهارة والشجاعة، لـ«تعکس قوة النظام الإسلامی وعزته».
وإذا کان تعبیر «الثوریة» یفرض فی المقام الأول تراکم نوع من السلوکیات والممارسات، فیکفینا الإشارة هنا إلى ما طرحه الإمام الخامنئی الذی عایش الثورة رکناً أصیلاً فیها، منذ انطلاقتها حتى هذه اللحظة من عمر الدولة، واضعاً أهم محددات هذه الدبلوماسیة:
أولاً: الحفاظ على التوجه الإسلامی عبر إظهار الإیمان الدینی والالتزام بمعاییره من دون تردد ولا خوف. بل إنّه یعتبر أنّ مصدر القوة کامن فی هذا البعد الروحی المعنوی، لا بالاستناد إلى عوامل القوة الظاهریة، کالمال والسلاح والثروة والعلم على أهمیتها. وشدد على أنّ الروحیات الإسلامیة والتمسک بالإسلام واللجوء إلى المبادئ الإسلام تعطی إیران قدرة الوقوف «فی وجه أکبر قوة فی العالم، وترفض کلامها وبجرأة».
ثانیاً: الحفاظ على العظمة الثوریة: من خلال عدد من السیاقات.
أ- إبراز الشجاعة فی مواجهة غطرسة الأعداء والقوى العظمى وتهدیداتهم، وعدم السماح لأی دولة بالتعامل مع الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة بفوقیة، وضرورة إبداء الصرامة تجاه ذلک.
ب- سیادة العقل والمنطق على القرارات والتحرکات الدبلوماسیة.
ج- إظهار الأهداف السیاسیة بشکل واضح والتصریح بها بصوت عال.
د- إرساء فکرة رفض الهیمنة والخضوع ونظام السید والرعیة على مستوى العالم.
ه- الاستقلالیة وعدم القبول بأی شکل من أشکال الضغوط فی ما یتعلق بإقامة العلاقات أو الموافقة على قرارات ترتبط بتوجّهات وإجراءات تخالف مصلحة الإسلام والنظام.
و- إعلان العداء للدول غیر الشرعیة کالکیان الصهیونی أو المتطاولة والمعتدیة کالولایات المتحدة الأمریکیة.
ز- توطید العلاقات مع الدول الغربیة بالاستناد إلى القوة والحجة من دون المساومة على القیم والمبادئ.
ثالثاً: الدفاع عن هویة النظام الإسلامی فی المحافل الدولیة. وهذا یتطلّب من الدبلوماسیین معرفة موقع إیران الجیو - سیاسی والاستراتیجی، وبأی اتجاه یجب التحرک. ولأنّ الدبلوماسیة حرب، یوصی الخامنئی الدبلوماسیین بأن یکونوا دوماً « فی حالة مواجهة ومجاهدة وعمل»، وعدم التواضع تجاه القوى الدولیة التی لا یرضیها إلا أن تتخلى إیران عن هویتها الإسلامیة ومصادر قوتها وعظمتها.
رابعاً: الالتزام بمبدأ «لا شرقیة ولا غربیة». فهذا المبدأ هو أصل ولیس سیاسة یمکنها أن تتغیر وتتبدل بحسب الظروف. ولهذا یوصی الخامنئی اعتباره «کبیت شعر یجب تکراره بشکل دائم»، لأنّه الأساس فی قوة السیاسة الخارجیة وعدم تبعیتها للقوى الکبرى فی الشرق والغرب.
خامساً: تشکیل المجموعات الدولیة وإیجاد العلاقات وتقویتها بناءً على الفکر والعقیدة والنهج الإسلامی. الخامنئی یطلب من الجهاز الدبلوماسی توسعة الحضور فی الخارج وصنع الأصدقاء وفتح الآفاق وتوفیر الفرص. فهذا الجهاز تقع على عاتقه إیصال رسالة الجمهوریة الإسلامیة إلى العالم، والتعریف بالثورة وأهدافها، والوقوف کسدّ فی وجه الهجمات.
سادساً: التوجه فی العلاقات الندّیة السلیمة نحو آسیا، أی إلى الشرق، من دون فک الارتباط الکلی مع الغرب.
سابعاً: کسر حاجز التهمیش الدولی فی العلاقة مع الدول الأفریقیة، والتوجّه إلى تلک الدول إن لم یکن من البوابة السیاسیة فلیکن من البوابة الاقتصادیة، لتعزیز الارتباط العاطفی معها، ما یعطی العلاقات الدولیة رونقاً آخر تحضر فیه حتى تلک الدول الهامشیة والفقیرة.
لقد نجحت إیران خلال الأعوام الأربعین الماضیة فی اختراق المیادین الدولیة ونسج علاقات وشراکات مع دول عدیدة، رغم سیاسات التشویه والتدمیر التی مورست من قبل أمیرکا ودول مختلفة فی العالم. واستطاعت أن تُبرز نموذجاً فی السیاسة الخارجیة یعتمد التوفیق فی إقامة «العلاقات السلیمة والمنطقیة التی تحفظ الحرمة الثوریة للشعب»، وفی الوقت نفسه تدافع عن الشعوب والحرکات الثوریة فی العالم. وبعد کل هذه الجهود لم تعد إیران، بفضل دبلوماسیتها النشطة والفعّالة وتجربة دبلوماسییها وکفاءاتهم، جزیرةً معزولة فی هذا العالم، بل هی الیوم بشعاراتها، وبالرایة الثوریة التی ترفعها، مصدر تأثیر على مساحة کبیرة خارج حدودها. لم تبد التراخی واللیونة فی مواقفها التفاوضیة، ولم تُظهر الضعف والتساهل بشأن مصالحها الاقتصادیة والعسکریة، وحوّلت التهدیدات إلى فرص، وخلقت دینامیات جدیدة ستترک أثرها الکبیر بلا شک على صعید التحاور البنّاء والالتزام بالعهود وإدارة الأزمات وفض النزاعات بین الدول.
بعد التفاوض بشأن الملف النووی الذی دام أکثر من عقد من الزمن، وظفت فیه أمیرکا وحلفاؤها کل الاستراتیجیات التفاوضیة لإخضاع إیران، تمکّنت الجمهوریة الإسلامیة ـــ بفعل دبلوماسیتها الذکیة والصلبة ـــ من الخروج من الصعوبات التی تسبّبت فیها العقوبات. وفی المقابل، ها هی تواصل خیاراتها الاستراتیجیة الإقلیمیة والصاروخیة والنوویة. وقد استطاعت کذلک اختراق جدار العزلة الدولیة بشراکة واسعة مع الصین تمتد لربع قرن من الزمن، وتستعد لعقد اتفاقیة مماثلة مع روسیا، لتستکمل تحصین جبهتها وامتداداتها الاستراتیجیة وصدارتها الإقلیمیة.
الدبلوماسیة الإیرانیة أثبتت أنّ تحدّی الهیمنة الأمیرکیة والأوروبیة لیس مستحیلاً، وأنّ بالإمکان خلق شبکة من التوافقات الدولیة لا تعید التوازن إلى الحیاة الدولیة فحسب، بل تدفع باتجاه خلق ثقافة وحضارة جدیدتین وسیاق جدید من السیاسات، قادر على النظر إلى السلام من خلال مراعاة القوانین العادلة وقواعد التعاون بین الشعوب، لا من خلال دخان الحرب ونارها کما یقول کیسنجر.