رصاص الحروف
بثينة المصطفي
نزار قباني... مقاومة برصاص الحروف

بثينة المصطفي - كتب في مذكراته أنه (وجد نفسه بين الخامسة والثانية عشرة من عمره غارقًا في بحر من الألوان) ولم ينفك نزار قباني منذ ميلاده في 21 مارس / آذار 1923 بدمشق حتى وفاته في 30أبريل / نيسان 1998 عن عمر ناهز 75 عامًا في لندن؛ يبدع في ألوان الكتابة العربية بقوس واسع الألوان والأغراض.
إنه نزار توفيق القباني السوري الذي شكل إبداعه الشعري نقلة نوعية في الشعر العربي والسوري الحديث والمعاصر.
شمل إبداعه النثر والشعر والنقد والنشر، وتعددت أغراضه الشعرية بين شعر الغزل والحب والسياسة والمقاومة.
ربما يؤرخ له البعض انعطافته الحادة عن شعر الحب والمرأة إلى شعر المقاومة بقصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة" التي كتبها تحت وطأة الصدمة غداة هزيمة الجيوش العربية أمام العدو الصهيوني الإسرائيلي عام 1967في مصر وسورية على الأخص ، والتي بالفعل شكلت مفترقا حاسما في تجربته الشعرية بأغراضها العامة لكنها لم تكن في الحقيقة بادئة شعره السياسي والوطني والرفض للهزيمة والحث على المقاومة .
فمثلما سبق جميع الشعراء العرب بالكتابة عن نكسة 67 في حينها ، كان أن كتب أيضا في الشعر الوطني والمقاومة قبل هذا التاريخ ؛ ففي عام 1955 كتب قصائده "إلى الجندي العربي المجهول" و "أصبح عندي الآن بندقية، " بعدها كتب "رسالة جندي في السويس" 1956م،و "جميلة بوحيرد " عام 1957م، لكن ما ميز قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" جرأتها في تشخيص سبب الهزيمة وفضحها لتهاون الحكام العرب مع القضية الفلسطينية بشكل لم يسبقه ولم يلحق به أي شاعر عربي ، ومُنعت أشعاره بسببها من التداول والنشر في سائر أنحاء الوطن العربي كله .
ففي عام 1955 بقصيدته إلى الجندي العربي المجهول حصر نزار قباني الشرف والمجد بالمقاتل المقاوم الجندي الذي تنطوي سيرته ويختفي اسمه وتسيل دمائه فقط زودا عن الأرض. والأرض المقصودة هنا هي أرض فلسطين العربية :
لو يُقتلون مثلما قُتلت
لو يعرفون أن يموتوا.. مثلما فعلت
لو مدمنو الكلام في بلادنا
قد بذلوا نصف الذي بذلت
لو أنهم من خلف طاولاتهم
قد خرجو..كما خرجت أنت
واحترقوا
في لهب المجد كما احترقت
لم يسقط المسيح مذبوحاً
على تراب الناصرة
ولا استبيحت تغلب
وانكسر المناذرة
- وفي نهاية قصيدته يؤكد على انه لا سبيل لاستعادة الحق إلا بالمقاومة حتى وإن قتل الجندي في هذا السبيل فقد حققت دماءه النصر :
يا أشرف القتلى
على أجفاننا أزهرت
الخطوط الأولى إلى تحريرنا
أنت بها بدأت
يا أيها الغارق في دمائه
جميعهم قد كذبوا
وأنت صدقت
جميعهم قد هزموا
و وحدك انتصرت.
مبكرا نزع نزار قباني إلى الانقلاب على القوالب المحفوفة بالابتذال وإعادة الشعر بالشعر ذاته ، ولم يكن هذا بعيدا عن نشأته في بيت مقاوم؛ فوالده هو توفيق القبّاني صاحب مصنع لإنتاج الحلويات كان بيته الدمشقي التقليدي مركزا مقاوما للانتداب الفرنسي على سورية ، وكان منزله مكانًا لاجتماع أقطابِ المُعارضة الوطنيّة في عشرينيات القرن العشرين .
وجاء العامل الثاني المهم في تشكيل وعيه الوطني والقومي بتتلمذه أثناء دراسته بالكلية العلمية الوطنية على يدِ الشاعر خليل مردم بِك مؤلف النشيد الوطني الرسمي للجمهورية العربية السورية تم تبنيه منذ العام 1938 "حماة الديار" والذي علّمه أصول النحو والصرف والبديع ووجهه لإجادة الشعر.
فقد بدأت مسيرته العلمية والعملية بأن التحق بمدرسة الكلية العلمية الوطنية في دمشق في السابعة من عمره، وتخرج منها في الثامنة عشر حاصلا على شهادة البكالوريا الأدبي ، ثم انتقل إلى مدرسة التجهيز وحصل على شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة).
وتخرج عام 1945 من الجامعة السورية في دمشق على الليسانس في الحقوق ، وكان قد نشر خلال دراسته الحقوق أولى دواوينه الشعريّة وهو ديوان "قالت لي السمراء" حيث قام بطبعه على نفقته الخاصة، وقد أثار ديوانه الأول، جدلاً في الأوساط التعليمية في الجامعة حينها ، وأتقن اللغة الفرنسية والإنجليزية و الإسبانية.
ثم التحق نزار بالعمل الدبلوماسي بعد تخرجه مباشرة من كليه الحقوق حيث عُيّن في السفارة السوريّة في القاهرة ، وتنقل بعمله الدبلوماسي بين اسطنبول، وهونغ كونغ، وروما، ولندن، واسكتلندا، وموسكو،وتايلاند، والصين، وسان جرمان، وإسبانيا، وهولندا، وسويسرا، ونيس، ومونت كارلو. ما كان له أثره في تنمية ملكته الفكرية والشـعرية.
تعرض لحملة شرسة من السلفيين والمحافظين في المجتمع السوري حين كتب قصيدته "خبز وحشيش وقمر " في لندن عام 1954 إلى الحد الذي طالب فيه النواب السلفيون في البرلمان السوري بمحاكمته وطرده من السلك الدبلوماسي.حيث مثلت هذه القصيدة أول صدماته الشعرية للجمهور العربي فكان أول شاعر تناقش قصائده في البرلمان.
أما ثانيها فكانت فيما بعد قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" والتي كتبها بعد أيام قلائل من هزيمة يونيو / حزيران 67.
وفي عام 1966، ترك نزار العمل الدبلوماسي مختارا وواهبا بقية عمره لكتابة الشعر، وأسس في بيروت دارا للنشر تحمل اسمه " نزار قباني للنشر". فأثمرت مسيرته إحدى وأربعين مجموعة شعرية ونثرية ، وللغرابة أن أول ديوان له بعد ترك العمل الدبلوماسي كان ديوان "الرسم بالكلمات " وكأنه يعيد التأكيد على غواية الألوان والرسم التي تملكته منذ صغره ، لكن هذه المرة يرسم بالكلمات .
وبالعودة لرصاص الحروف عند نزار قباني كشاعر للمقاومة نجده في قصيدة رسالة جندي في جبهة السويس يكتب ويدون تأريخا لمقاومة الشعب المصري للعدوان الثلاثي وعلى قمته الصهيونية الإسرائيلية :
يا والدي
هذي الحروف الثائرة
تأتي إليك من السويس
تأتي إليك من السويس الصابرة
إني أراها يا أبي، من خندقي، سفن اللصوص
محشودةٌ عند المضيق
هل عاد قطاع الطريق؟
يتسلقون جدارنا..
ويهددون بقاءنا..
فبلاد آبائي حريق
إني أراهم، يا أبي، زرق العيون
سود الضمائر، يا أبي، زرق العيون
قرصانهم، عينٌ من البللور، جامدة الجفون
والجند في سطح السفينة.. يشتمون.. ويسكرون
فرغت براميل النبيذ.. ولا يزال الساقطون..
يتوعدون
وفي رسالة لاحقة ينتقل من جبهة السويس إلى بورسعيد وهي ثانية مدن القناة المصرية وكأنه بالفعل يتنقل بميدان المواجهة واصفا إياه بدقة معتبرا العدو ما هو إلا قاطع طريق وجب إماطة أذاه عن أرض الوطن كي ننعم بالحرية الحقيقية فلا حرية بدون كرامة بذل الدماء وسحق أرتال الجراد مهما عظمت :
الرسالة الثانية 30/10/1956
هذي الرسالة، يا أبي، من بورسعيد
أمرٌ جديد..
لكتيبتي الأولى ببدء المعركة
هبط المظليون خلف خطوطنا..
أمرٌ جديد..
هبطوا كأرتال الجراد.. كسرب غربانٍ مبيد
النصف بعد الواحدة..
وعلي أن أنهي الرسالة
أنا ذاهبٌ لمهمتي
لأرد قطاع الطريق.. وسارقي حريتي
لك.. للجميع تحيتي
في الرسالة الثالثة من ذات القصيدة يحدثنا نزار قباني بالحقيقة التي لا سبيل غيرها أن يتحول الشعب كله وقت المواجهة إلى مقاومة المحتل المعتدي فكلنا جنود ، حتى هذا الشاعر تتحول حروفه لطلقات رصاص تسجل وتجترح وتحفز الهمم فيقول :
الآن أفنينا فلول الهابطين
لم يبق فلاحٌ على محراثه.. إلا وجاء
لم يبق طفلٌ، يا أبي، إلا وجاء
لم تبق سكينٌ.. ولا فأسٌ..
ولا حجرٌ على كتف الطريق..
إلا وجاء
ليرد قطاع الطريق
ليخط حرفاً واحداً..
حرفاً بمعركة البقاء
برسالة إعلان النصر ينشد الشاعر الذي بدأ عمله الدبلوماسي من مصر لمديح الشعب المصري ويتحول لعالم اجتماعي وجغرافي لصيق الهدف والمصير بجغرافيا الشعب بكل مفرداته فيقول :
أبتاه، ماتت كل أسراب الجراد
لم تبق سيدةٌ، ولا طفلٌ، ولا شيخٌ قعيد
في الريف، في المدن الكبيرة، في الصعيد
إلا وشارك، يا أبي
في حرق أسراب الجراد.
وفي عام 1957 ينتقل إلى الغرب من مصر ليحيي ثورة الجزائر وأيقونتها الجميلة ونضال الشعب الجزائري ضد المحتل الفرنسي ، ليختار زهرة النضال النبيلة جميلة بوحيرد راسما سيرتها المقاومة شعرا يكاد المرء من عنفوانه أن يتمنى أن يكون تلك المقاومة :
الاسم: جميلةُ بوحَيَردْ
أجملُ أغنيةٍ في المغرب
أطولُ نَخلَهْ
لمحتها واحاتُ المغرِب
أجملُ طفلَهْ
أتعبتِ الشمسَ ولم تتعب
يا ربّي . هل تحتَ الكوكَب ؟
يوجدُ إنسانْ
يرضى ان يأكُلَ .. أن يشرَب
من لحم مُجاهِدةٍ تُصلب ..
أضواءُ ( الباستيلِ) ضئيلة
ليصل بمقطع النهاية مقارنا الجميلة الجزائرية بأهم نموذج لدي المستعمر الفرنسي مذكرا إياه بتفاهة انتصاره المزعوم على جسد إمرأة لم تغادر حضن وطنها طفولة وعلت على نموذجهم الهش بطولة :
الاسم: جميلةُ بوحَيردَ
تاريخٌ: ترويه بلادي
يحفظُهُ بعدي أولادي
تاريخ امرأة من وطني
جلدت مقصلةَ الجلاَّدِ ..
امرأة دوَّخت الشمسَ
جرحت أبعادَ الأبعادِ ..
ثاثرةٌ من جبل الأطلَس
يذكرها الليلكُ والنرجس
يذكرُها .. زهرُ الكبَّاد ..
ما أصغرَ( جان داركَ ) فرنسا
في جانب( جان داركَ ) بلادي..
كانت تلك نماذج من شعر المقاومة التي رسمها نزار قباني لجغرافيا الصراع العربي ضد المحتل الغاصب تحت أسماء مختلفة في فلسطين ومصر والجزائر من قبل قصيدته " هوامش على دفتر النكسة" وهو يعترف أن تلك النكسة قلبت موازينه الشعرية وفجرت بداخله بحور جديدة للمقاومة فيقول:
يا وطني الحزين حولتني بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين
اذا خسرنا الحرب... لاغرابة لأننا ندخلها
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة لأننا ندخلها
بمنطق الطبلة والربابة
في مطلع القصيدة ينعي نفسه الحزينة المكسورة تحت وطئ الهزيمة فيقول :
انعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة والكتب القديمة
انعي لكم كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر والهجاء والشتيمة
انعي لكم... انعي لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلي الهزيمة
وبالمقاطع الأخيرة من القصيدة يشخص أسباب الهزيمة بخيانة الحكام واستسلام الشعوب للأوهام و يصل للحقيقة الوحيدة في مشوار المقاومة
ويستبشر بجيل جديد يهزم تلك الهزيمة المريرة:
لو أننا لم ندفن الوحدة في الترابْ
لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب
لو بقيت في داخل العيون والأهداب
لما استباحت لحمَنا الكلاب..
نريد جيلاً غاضباً..
نريد جيلاً يُفلح الآفاق
وينكش التاريخ من جذوره..
وينكش الفكر من الأعماق
نريد جيلاً قادماً..
مختلف الملامح..
لا يغفر الأخطاء.. لا يسامح..
لا ينحني..
لا يعرف النفاق..
نريد جيلاً..
رائداً..
عملاق..
ولاحقاً في بادرة غريبة على نزار قباني الذي لم يمدح زعيم أو حاكم ،كان للسيد حسن نصر الله السبق الوحيد بمدح قباني ، و ذلك بعد الانتصار الكبير على العدو الصهيوني الذي كان مازال يحتل بيروت . فكانت عمليات عناقيد الغضب و انتصاراتها عام 1996 م مبعثاً لأن يكتب في السيد مستغرباً وجوده الإنساني في مجتمعنا العربي فقال فيه :
يا أيها الذي السيف الذي يلمع بين التبغ و القصب
يا أيها المهر الذي يصهل في برية الغضب
إياك أن تقرأ حرفاً من كتابات العرب
فحربهم إشاعة
و سيفهم خشب
و عشقهم خيانة
و وعدهم كذب
.....
ياسيدي ..ياسيد الأحرار
لم يبقَ إلا أنت
في زمن السقوط و الدمار
في زمن التراجع الثوري
و التراجع الفكري
و التراجع القومي
و اللصوص و التجار
في زمن الفرار
و هكذا نرى كيف أن حياة نزار التي سمحت له أن يتنشق نسيم الحرية في كل دول العالم لم تعم عيونه أو تصم آذانه عن واقع الشعوب العربية المضطهدة و الحقوق المسلوبة سواء من قبل بعض الأنظم الحاكمة أو من قبل أعدائهم، بل عبر من خلال أشعاره عن آرائه السياسية تجاه قضايا الأمة الإسلامية والعربية و قدم أسمى مظاهر الشعر المقاوم في الأدب العربي المعاصر .