۱۸ عاماً... من استنزاف العدوّ إلى القدرات الهجومیة

لم یقتصر إنجاز المقاومة فی وجه الاحتلال الإسرائیلی عام 2000 على أنها صنعت تاریخاً، بل تصنع الحاضر وتحمیه، وهی تشکل بطاقة تأمین وأمان للمستقبل. وقد یکون الحفاظ على التحریر، فی وجه عدو کالإسرائیلی، أخطر وأشد صعوبة من إنجازه

لم یقتصر إنجاز المقاومة فی وجه الاحتلال الإسرائیلی عام 2000 على أنها صنعت تاریخاً، بل تصنع الحاضر وتحمیه، وهی تشکل بطاقة تأمین وأمان للمستقبل. وقد یکون الحفاظ على التحریر، فی وجه عدو کالإسرائیلی، أخطر وأشد صعوبة من إنجازه، الذی کان فی حدّ ذاته إنجازاً غیر مسبوق فی تاریخ الصراع العربی ــــ الإسرائیلی.
 
یعدّ إنجاز الألفین مفصلاً استراتیجیاً وتأسیسیاً فی میزان القوة بین إسرائیل ولبنان، لیس فقط على صعید القدرة على مقاومة الاحتلال واستنزافه ومنعه من إحکام سیطرته على الأرض اللبنانیة، وصولاً إلى دحره، بل باتجاه القدرة الدفاعیة (نموذج 2006)، وتنامیها من عام 2011 إلى الآن فی المیدان السوری، إلى الحد الذی باتت معه المقاومة قادرة على المواجهة الاستباقیة، بمعان هجومیة دفاعیة.
ضمن هذه المفاصل الثلاثة، یأتی اندحار إسرائیل عام 2000 نتاج مسار تراکمی حققته المقاومة فی معرکة استمرت سنوات، وشهدت استنفاد إسرائیل کل خیاراتها الممکنة.
فی ذلک الحین، لجأت إسرائیل إلى سیاسة الاغتیالات، بدءاً باغتیال القادة؛ على رأسهم الشیخ راغب حرب والسید عباس الموسوی، والعدید من الکوادر القیادیة المیدانیة، مروراً بخوض المعارک التقلیدیة المباشرة مع المقاومین، کما حدث فی معرکة میدون عام 1988 نموذجاً، وصولاً إلى استهداف المدنیین وتهجیرهم بهدف تألیبهم على المقاومة (حربا 1993 و1996).
انشغال إسرائیل فی حمایة احتلالها لأجزاء من الجنوب اللبنانی، حوّل الاحتلال نفسه إلى عبء على الکیان الإسرائیلی قیادة وجمهوراً وجیشاً، بحیث بات سبباً إضافیاً للاستنزاف الأمنی لشمال فلسطین المحتلة نتیجة السیاسة الصاروخیة الردعیة التی اتبعتها المقاومة رداً على کل تجاوز إسرائیلی لخطوط حمر محددة، ما أدى إلى أن یتحول «الحزام الأمنی» من عامل تأمین لشمال إسرائیل إلى مصدر تدهور أمنی.
بعد هذا المخاض، وجدت القیادة الإسرائیلیة نفسها أمام خیار من اثنین: إما استمرار تلقی الضربات، مع قیود فرضتها معادلة الردع التی نجح حزب الله فی فرضها على إسرائیل، أو الانسحاب من دون قید أو شرط، وخاصة أن خیار التوسع الجغرافی بات محذوفاً من جدول أعمال إسرائیل نتیجة الأثمان التی کانت المقاومة تکبّدها لها یومیاً من خلال عملیاتها التی لم تتوقف طوال سنوات الاحتلال. وعلى ذلک، دُفعت إسرائیل دفعاً إلى قرار «الانسحاب»، وهو المصطلح الذی یقنع عملیاً الاندحار الإسرائیلی، الذی لم یستطع حتى الالتزام بالموعد الذی حدده رئیس الحکومة فی حینه إیهود باراک، فی تموز عام 2000.
 
    تجربة القتال فی سوریا، بدلاً من أن تؤدی إلى استنزاف حزب الله، أدت إلى نتائج لم تکن لتخطر على بال صنّاع القرار فی إسرائیل
 
 
من اللحظات الأولى للتحریر، أدرکت قیادة المقاومة أن إسرائیل ستحاول بکل الوسائل أن تحطم النموذج البدیل الذی قدمته للشعوب العربیة عامة والشعب الفلسطینی خاصة، باعتباره النموذج الأنجع فی تحریر الأرض دون أثمان سیاسیة و/أو أمنیة. على هذه الخلفیة، بدأت الاستعداد للحرب المقبلة التی کانت قیادة المقاومة تدرک أنها آتیة لا محالة، وجاءت التطورات الإقلیمیة لاحقاً، ومن بینها الاحتلال الأمیرکی للعراق ومن ثم الخروج السوری من لبنان، لتنضج ظروف عدوان عام 2006.
الحرب فی حینه کانت حرباً من نوع جدید تخوضها المقاومة، لیس باتجاه استیعاب الاحتلال ومن ثم استنزافه، بل تجلى فیها تطور دور المقاومة، وهو الأمر الذی عملت علیه قیادة حزب الله منذ انتقال الواقع المیدانی من تحریر الأرض من الاحتلال إلى حمایتها منه، وهو نموذج غیر مسبوق فی معادلات الصراعات، إذ المألوف أن المقاومة تحرر الأرض بأسالیب حرب عصابات، لکنها غیر قادرة على الدفاع أو الدفاع الصدّی. المفاجأة أن المقاومة، فی طابعها الثانی الدفاعی ما بعد التحریر، نجحت فی تقدیم نموذج بدیل لحمایة الأوطان عبر المواجهة المباشرة مع عدو، متفوق على المستوى العسکری والإمکانات المحیطة بقرار حربه واعتداءاته.
المحطة الثالثة التی تأسست أیضاً على إنجاز عام 2000، هی التجربة التی خیضت فی القتال السوری ضد الجماعات التکفیریة على اختلاف أنواعها. هذه التجربة، بدلاً من أن تؤدی إلى استنزاف حزب الله وإضعافه، أدت إلى نتائج لم تکن لتخطر على بال صنّاع القرار السیاسی والأمنی فی إسرائیل، فساهمت فی تطویر القدرات الهجومیة بما یخدم استراتیجیة الردع والدفاع فی وجه العدو. وإذا استندنا إلى إقرار العدو نفسه، الذی بدأ من ناحیة فعلیة التخطیط والتنفیذ لمواجهة سیناریوات توغل المقاومة فی الأرض الفلسطینیة رداً على اعتداء إسرائیلی واسع على لبنان، فهو إقرار بأن المقاومة بلغت فعلیاً هذه القدرة، التی کان مجرد افتراضها فی عام 2000 ضرباً من ضروب الخیال.
بعد 18 عاماً من التحریر، لم یعد الشعب اللبنانی والشعب الفلسطینی وربما شرائح واسعة من العالم العربی تحتاج إلى استدلالات، کی تثبت جدوى المقاومة فی التحریر والدفاع والمنعة والردع، بل فی ضوء تفتت العدید من الکیانات العربیة والترهل الذی یشهده العالم العربی، باتت هذه الشعوب أحوج ما تکون إلى المقاومة من ذی قبل.
النتیجة التی أثبتها حزب الله فی لبنان، فی المراحل الثلاث، بدءاً من عام 2000 وطوال السنوات الـ 18 من حینه، أن المقاومة هی مفردة تساوی البقاء وتعنیه، فی مقابل التراکض وراء العدو للتحالف معه.




ارسال التعلیق