الارتباک کانَ بادِیًا على ترامب أثناء مؤتمره الصحافیّ الذی عقده بعد إعلان نتائج الانتخابات النصفیّة، عندما تطاول على صِحافیّ فی محطّة ” سی إن إن” واتّهمه بـ “الوقاحة”، وأصدر تعلیماتِه بسَحب اعتماد الصِّحافی الذی یُتیح له تَغطِیة اجتماعات البیت الأبیض، الأمر الذی أظهره، أی ترامب، بمَظهر الرئیس “السُّوقی” الذی یُعادی الإعلام وحُریّة التَّعبیر، ویَخرُج عن آدابِ مَنصِبِه وبُروتوکولاته لأوّل مرّة فی تاریخِ أمریکا.
أمّا المُتغطرِس الآخِر نِتنیاهو الذی ما زالَ یَترنَّح مِن وقع الإهانة والتَّجاهُل اللذین انعَکسا فی مَوقِف بوتین الصَّارِم تُجاه الاستفزاز الإسرائیلیّ، ونَکثِ الوعود، بالتَّسبُّب بإسقاط الطائرة الروسیّة “إیل 20″، ومَقتَل 15 خبیرًا استخباریًّا روسیًّا کانوا على مَتنِها فوق الأجواء السوریّة فی 17 تشرین أوّل (أکتوبر) الماضی، عِندما رفض اللقاء، وأنکر المُتحدِّثون باسمِه أی اتّفاق حول وجوده أصلًا، بکِبریاء وتَرفُّع.
***
نِتنیاهو أوحى کذبًا بأنّه هو الذی ألغَى هذا اللِّقاء، ثم قال وزیر البیئة الإسرائیلیّ زئیف الکین، الذی شارَک رئیس وزرائه جمیع اللِّقاءات مع بوتین لأنّه یُجید اللغة الروسیّة بحکمه مُهاجِرًا روسیًّا، فادّعى أنّ الإلغاء جاءَ لأنّ تنسیق الفعالیّات فی احتفالات باریس لا یَسمَح بعقد لقاء ثُنائی بین نِتنیاهو وبوتین، وهو کَذِبٌ مَفضوحٌ لإنقاذِ ماء وجه نِتنیاهو، فکیف تسمح هَذهِ الفعالیّات للقاء بین الرئیس الترکی رجب طیّب أردوغان على هامِشها، ولقاء قمّة آخَر مُحتَمل بین ترامب وبوتین، ولا تَسمَح بلِقاء نِتنیاهو وبوتین؟
نِتنیاهو لا یَعرِف الحِکمة التی تقول “اتّقوا غضب الحلیم بوتین” فهذا الرجل، مِثلما یقول الخُبراء بشَخصیّته، یَملُک نفسًا طویلًا قویًّا، وقُدرةً غیر مسبوقةً على کَظْمِ الغَیْظ، ولکنّه إذا غَضِب لا یتردَّد لحظةً بالانتقام والثّأر، وهذا ما حدث بعد إسقاط طائرة التجسس الروسیّة، فقد بادَر فَورًا، وفی أقل مِن أُسبوعین، بتسلیم الجیش العربی السوری مِنصّات صواریخ “إس 300” التی قَطَعَت دابِر الغارات الجویّة الإسرائیلیّة على سوریة، وربّما إلى الأبد، بعد أن کانت الطائرات الإسرائیلیّة تَسرح وتَمرح وتَقصِف مِثلما تَشاء، وبلغ عَددُ غاراتِها حوالیّ 210 غارةً فی أقل مِن عامین.
المَسؤولون الإسرائیلیّون عادوا إلى لهجة التصعید مُجدَّدًا فی مُحاولةٍ لسَترِ عوراتهم، فالوزیر الکین تَوعَّد بتدمیر هَذهِ المنظومات الصاروخیّة المُتطوِّرة التی تُشکِّل تهدیدًا لأمنِ إسرائیل، حتى لو أدّت عملیّات قصفها إلى تهدید أرواح خُبراء روس، أمّا وزیر الأمن الداخلیّ غلعاد أردان فدَعا إلى “ضرورة استهداف الوجود الإیرانی فی سوریة حتّى لو أدّى ذلک إلى نُشوبِ مُواجهةٍ على الجبهة الشمالیّة، لأنّ التمرکز الإیرانیّ یُشَکِّل خَطَرًا وجودیًّا مُستقبلیًّا على دَولةِ إسرائیل”.
کَثیرون، داخل سوریة وخارِجها، یتَمنَّون أن یتجرّأ نِتنیاهو ویُعطِی الأوامر بانطلاقِ طائرات حربیّة إسرائیلیّة لقَصفِ أهدافٍ سوریّةٍ أو إیرانیّةٍ فی العُمق السوری، فی اختبار للقِیادتین الروسیّة والسوریّة لأنّ الرَّد سَیکون مُزلزِلًا، ومُدمِّرًا فی الوَقتِ نَفسِه.
إسقاط الطائرة الروسیّة “إیل 20” جاءَ هدیّةً لا تُقدَّر بثَمنٍ للرئیس بوتین للتَّخلُّص مِن عِبء صداقَتِه لبنیامین نِتنیاهو، ولا نُبالِغ أنّه کانَ یتمّناها ویَنتَظِرها، للتَّخَلُّصِ مِن هذا الضَّیفِ الثَّقیلِ المُزعِج وزِیاراتِه المُتکرِّرة، أو هکذا یَعتقِد العَدیدون، ونَحنُ على رأسِهِم.
***
اللواء فی الجیش العربیّ السوریّ حسن أحمد حسن، أکَّدَ أمس “أنّ صواریخ “إس 300” خَفَّضَت إلى حَدٍّ کَبیرٍ احتمال قِیام إسرائیل بشَنِّ هُجومٍ على سوریة”، وشَدَّد على أنّه “مَن حَق الدولة السوریّة أن تُدافِع عن سَمائِها”، وقال “لا أستطیع أن أجْزِم بوُقوعِ هُجومٍ، ومَع ذَلِک فإنّ نَجاح هذا الهُجوم یَنخفِض إلى الحَد الأدنَى”، کم کانَ مُهذَّبًا هذا اللِّواء، ودَقیقًا فی اختیارِ کَلِماتِه.
المبعوث الأمریکیّ الخاص إلى سوریة جیمس جفری قال أمس “أنّ واشنطن تَشعُر بقَلَقٍ بالِغ إزاءَ نَشرِ أنظِمَةِ الصواریخ الروسیّة هَذهِ”، وهو قَلَقٌ مُفرِحٌ لکُل مَن کان یتَمنَّى وجود هَذهِ الصَّواریخ للدِّفاعِ عَن السِّیادةِ السوریّة، والتَّصدِّی للغاراتِ الإسرائیلیّة.
“سوریة الجدیدة” تَخرُج أکثَر قُوّةً وصَلابةً مِن وسط رُکام المُؤامرة، وتتعافَى على الصُّعُد کافَّةً، وباتَت تَملُک أدوات الرَّدع لمُواجَهة أیّ عُدوان یَستهدفِها، فالزَّمن الذی کانت تسرح فیه الطائرات الإسرائیلیّة وتَمْرَح فی الأجواء السوریّة دُونَ رَدٍّ قد وَلّى إلى غَیرِ رَجعَةٍ، أو هکذا نأمَل، فی ظِل التَّغییرِ الکَبیر فی مُعادَلات القُوّة على الأرضِ وفی السَّماءِ مَعًا، وسُبحان مُغَیِّر الأحوال، ومَن یَضْحَک أخیرًا یَضْحَکُ کَثیرًا.. والأیّام بَیْنَنَا.