ترامب یتراجع ویُبقی 200 جندی فی سوریة لحِمایة الأکراد بعد مُکالمةٍ هاتفیّةٍ مع أردوغان واستجابةً لضُغوط بولتون.. ما الذی یجری بالضّبط؟ وهل تملّص الرئیس الترکیّ من اتّفاقات قمّة سوتشی الثلاثیّة وأبرزها إحیاء “اتّفاق أضنة” وإنهاء هیمنة “النصرة” على إدلب؟ إلیکُم محاولةً للفهم ورسم السّیناریوهات المُقبلة
عبد الباری عطوان
قرار الرئیس دونالد ترامب المُفاجِئ الذی أعلنه مساء الخمیس الماضی، بعد مُکالمة هاتفیّة مع الرئیس رجب طیب أردوغان، بإبقاء 200 جندی فی شمال شرق سوریة ربّما یُشکّل نسفًا للتّفاهمات والاتّفاقات التی جرى التوصّل إلیها بین قادة روسیا وترکیا وإیران فی قمّة سوتشی الثلاثیّة الأخیرة، وأبرزها إحیاء “اتّفاق أضنة” الذی جرى التوصّل إلیه بین حُکومتیّ سوریة وترکیا عام 1998، کبدیلٍ عن المنطقة العازلة على الحُدود بین البلدین والحِفاظ على وحدة الأراضی السوریّة والأمن القومیّ الترکیّ معًا.
الرئیس ترامب کان یکذب عندما قال إنّه لم یتراجع عن قراره بالانسحاب الکامل من سوریة، ومن الواضح أنه رضخ لضغوط ومطالب جون بولتون، مستشاره لشؤون الأمن القومی، العدو الأشرس لإیران، وبعض القادة العسکریین، فی مُحاولةٍ لإرضاء حلیفیه، الأتراک والأکراد معًا، ولکنّه قد یخسرهما جُزئیًّا أو کُلیًّا فی نِهایة المَطاف.
القُوّات الأمریکیّة ذهبت إلى سوریة (2000 جندی) تحت غطاء مُحاربة “الدولة الإسلامیّة” واقتِلاعها من عاصمتها “الرقّة” شرق الفرات، الآن یقول الرئیس ترامب إنه سیُبقی الـ200 جندی أمریکی من أجل الحیلولة دون عودتها وتقلیص مخاطرها، بعد أن نزلت تحت الأرض، وعلى وشک بدء مرحلة العمل الإرهابیّ السریّ، علاوةً على توفیر الحمایة لقوّات سوریة الدیمقراطیّة، والتّجاوب مع نِداءات قیادتها التخلّی عن الأکراد.
200 جندی أمریکی لن یوفّروا الحمایة للأکراد، والمنطقة العازلة التی یُرید ترامب ومُستشاره بولتون إقامتها فی شمال شرق سوریة، فرهان ترامب إرسال 1000 جندی أوروبی للإحلال محل قوّاته المُنسحبة یُواجه صعوبات کبیرة، لأن الرد الأوروبیّ جاء “فاترًا”، ولا نستبعِد أن یلجأ الرئیس الأمریکیّ إلى حلفائه الخلیجیین، “المطبعین” الذین لا یرفضون له طلبًا هذه الأیّام لملء هذا الفراغ عسکریًّا، وتوفیر الأموال المطلوبة لتغطیة النّفقات.
***
لا نعرف حتى کتابة هذه السطور موقف کُل من الروس والإیرانیین، شرکاء الرئیس أردوغان فی قمّة سوتشی الثلاثیّة، عن هذه التطوّرات المُفاجئة، وأبرزها عودته للتّنسیق مُجدّدًا مع الأمریکان فی ملف شمال شرق سوریة، وبما یتعارض مع الاتفاقات التی تم التوصل إلیها، وأبرزها إنهاء سیطرة هیئة تحریر الشام (النصرة)، على إدلب، وعودة التنسیق الأمنی السوری الترکی بإحیاء “اتفاق أضنة”، والقضاء على جمیع “الحرکات الإرهابیّة” کردیّة کانت أو عربیّة أو أجنبیّة.
ما نعرفه أن الرئیس فلادیمیر بوتین الذی تُعارض بلاده قیام المنطقة العازلة فی شمال سوریة، ویُشدّد على حتمیّة عودتها بالکامل إلى سیادة الدولة الأم، هو الذی اقترح إحیاء “اتّفاق أضنة” فی القمّة الثنائیّة التی جمعته مع أردوغان فی سوتشی، ووحّد هذا الطّرح مُوافقة الرئیس أردوغان الذی بدأ التمهید لتطبیقه بالحدیث عن وجود اتّصالات رسمیّة بین أجهزة المخابرات الترکیّة والسوریّة، فلماذا تغیّر الموقف الترکیّ فجأةً، وکیف سیکون الرّد الروسیّ على هذا التّغییر؟
الهُجوم الشّرس وغیر المسبوق الذی شنّه الرئیس السوری بشار الأسد قبل خمسة أیّام على نظیره الترکیّ، واتهمه بالتبعیّة للأمریکان یُوحی بأنّ القیادة السوریّة کانت تعلم مُسبقًا بهذا الانقِلاب فی الموقف الترکیّ على الاتّفاقات التی جرى التوصّل إلیها فی قمُة سوتشی، ولا نستغرب أن یکون هذا الهجوم انعِکاسًا لغضبٍ روسیّ مُماثل أیضًا، فهذه هی المرّة الأولى، ومنذ سنوات یُهاجم الرئیس الأسد نظیره الترکی بهذه القسوة، ودون شن فی الوقت نفسه أیّ هجوم مماثل على الدول الخلیجیّة المُتورّطة تمویلًا وتسلیحًا فی الأزمة السوریّة مُنذ بدایتها قبل ثمانی سنوات تقریبًا مثلما کان علیه الحال فی خطابات سابقة.
کان لافتًا أنّ الجانبین الروسیّ والسوریّ تحدّثا عن مُخطّط أمریکیّ بإقامة “دویلة” کردیّة عشائریّة عربیّة فوق احتیاطات النّفط والغاز السوریّة الضّخمة شرق الفرات، فهل بقاء 200 جندی أمریکی فی شمال شرق سوریة یأتی فی إطار هذا المُخطّط الأمریکیّ، وبالتّوازی مع بقاء نفس العدد تقریبًا فی قاعدة التّنف العسکریّة فی مثلث الحدود السوریّة العراقیّة الأردنیّة جنوب شرق سوریة، بهدف إغلاق طریق الإمداد البریّ الإیرانیّ إلى الحُلفاء فی سوریة ولبنان.
إنّها مُحاولة أمریکیّة یقودها بولتون لإحیاء مشروع تقسیم سوریة، وخنْق الوجود الإیرانیّ فیها، فی إطار مُخطّط مُحاصرة إیران تمهیدًا لتغییر النّظام فیها، کخُطوة أولى تتحوّل الجُهود الأمریکیّة الإسرائیلیّة بعدها لتقسیم ترکیا.
***
باختصارٍ شدید نقول إنّ الرئیس أردوغان لا یُرید إحیاء اتفاق أضنة لأنّه یکُن کراهیّة شخصیّة للرئیس الأسد، ولأنّ التّطبیق یعنی التّنسیق، وإعادة العلاقات، وهذا ما یُفسّر عودته إلى الحلیف الأمریکیّ وإرساله وزیر دفاعه خلوصی آکار إلى واشنطن واتصاله بالرئیس ترامب، الأمر الذی ینطوی على مُخاطرةٍ کبیرةٍ ربّما تعکس نتائج عکسیّة، أبرزها تعثّر طُموحاته (أردوغان) فی إعادة 3.5 ملیون لاجئ سوری وتوطینهم فی المنطقة العازلة، لأنّ هذه الخطوة لن تحظى بمُوافقة الأکراد الذین سیصبحون فی موقف أقوى بعد قرار بقاء قوات أمریکیّة مُمکن أن تتعزّز بأُخرى أوروبیّة لحمایتهم.
تراجُع ترامب خلَط جمیع الأوراق على الأرض السوریّة وفی منطقة الشرق الأوسط کلها، وزاد من حِدّة التوتّر، وربّما لهذا السّبب خرج علینا الجِنرال علی شمخانی، أمین عام محلس الأمن القومیّ الإیرانیّ، الیوم بتصریحاتٍ یُؤکّد فیها بقاء بلاده فی سوریة لمُحاربة الإرهاب، واتّخاذ إجراءات جدیدة للمُحافظة على خُطوطها الحمراء فیها، والرّد المُختلف على أیّ اعتداءات إسرائیلیّة جدیدة، وتزامُن هذه التّهدیدات مع مُناورات عسکریّة إیرانیّة فی مضیق هرمز.