لبنان .. الانهیار الکبیر
کما فی الأفلام التی ترسم مشهد نهایة الکون. الغیمة التی تلوّنت سریعاً من حمراء إلى سوداء إلى رماد سام، بدت صورة مستعادة من أفلام الحروب العالمیة. المدینة تحوّلت إلى کومة رکام بعدما دُمّرت بعبثیة مجانین.
صراخ علا فی المدینة وکل أطرافها، ووصل صدى الصوت إلى أنحاء البلاد. هزة أرضیة فعصف ثم غبار یخفی، للحظات، حجم الکارثة، قبل أن یجد الناس أنفسهم، فجأة، أمام الصورة کاملة. صورة الانهیار الکبیر الذی أصاب مرکز البلاد، لتنتشر شظایاه فی أجساد الجمیع، ولکن، وللأسف، من دون أن توحّدهم.
سواء کان وراء ما حصل خطأ أو جریمة تخریب أو أی شیء آخر، فإنه لیس سوى رفع للغطاء عن الهریان الذی ضرب هذه البلاد. أتى الانفجار لیکشف عن وجه الانهیار الکبیر. انهیار منظومة متکاملة، من طریقة تفکیر وتصرّف وإدارة وطریقة تعامل مع الأزمات.
کان المتخاصمون ینشدون معاً نشید «اللقاء عند حافة القبر». لکن المأساة لن تجمع الشعوب اللبنانیة الآخذة بالتفلّت من کل شیء جامع. صار الانهیار الجماعی حجة إضافیة لمزید من العبث والمکابرة والإنکار. لکنه انهیار أخلاقی، أیضاً، أصاب کل منظومة القیم التی تحفظ تعاطفاً أو تکافلاً اجتماعیاً وإنسانیاً بین الناس. انهیار على شکل مأساة، لکنها لم تمنع جهات ومجموعات وأفراداً من السعی إلى استغلاله من أجل مکاسبهم التافهة. انهیار دلنا على أن بلادنا لم یعد فیها من یحظى بثقة الناس، سواء أکان مؤسسة أم جهة أم شخصاً. انهیار سیمنع غداً حزناً جامعاً على من سقط فی هذه الکارثة الکبیرة. انهیار کشف لنا، فی ساعات قلیلة، أن مأساة کبیرة تنتظرنا خلف الأبواب.
من یسمع تعلیقات من یفترض أنهم یعرضون أنفسهم لتولی المسؤولیة، وکیف صاروا، فی دقائق، خبراء وضاربین فی علم الغیب، وما أفرغوه من تحلیلات واختراع وقائع، لا یقول لنا سوى شیء واحد: إنه الانهیار السابق للخراب الکبیر. الخراب الذی لن یُبقی على شیء. أما الناس المتعبون، الذین جُبل عرقهم بدمائهم أمس، فسیُترکون لحالهم، ینشدون موتاً أقل صخباً لو أمکن، عسى أن یکون استغلاله أقل من قبل کواسر صاروا یرحّبون بالموت بحثاً عن رزقهم ولو على شکل جیفة. هؤلاء الذین لا نعرف لماذا تسمح لهم الشاشات بالتنقل بین الموتى، لتحریض الضحایا بعضهم على بعض.
فی لحظة واحدة ساد الصمت، ثم زالت الصدمة، وکأنّ الناس ینتظرون مثل هذا الحدث، وکأن هذه البلاد لم تشبع بعد من الدمار والنار والدماء والصراخ. وهی لحظة مستمرة لا یُتوقع لها أن تزول قریباً. وبین الناس من هم نذیر شؤم یتمنون الأسوأ من أجل إشباع رغبة مقیتة، لاعتقادهم أن الانهیار الکبیر سیتیح لهم الارتفاع إلى أعلى، ولو من على فوق رکام. هؤلاء الذین قالوا لنا قبل عقود بأنهم لا یخشون الحرب ولیربح الأقوى، هم أنفسهم الذین مارسوا کل أنواع التذلّل للخارج، وکل أنواع القتل والتنکیل فی الداخل، وهؤلاء الذین لم تُتعبهم الحروب حتى ولو لم یبق مبشّر على وجه هذه الأرض، هؤلاء هم الذین یتمنون الانهیار الکبیر، لأنهم لا یرون لبنان إلا على شاکلتهم أو لا یکون!
لا شیء یمکن الحدیث عنه أمام مشهد الجرحى على أبواب غرف الطوارئ فی المستشفیات. الآلاف وصلوا إلى المستشفیات وعادوا عندما شاهدوا الزحام على باب الجحیم. عاین الأطباء ضحایا العصف الهائل: رؤوس مخلّعة، وعیون خارجة من الوجوه، وجلود کأنها سُلخت عن عظام، والدماء تغطی کل شیء. وفی الأرض المحروقة، بقی رکام یحتجز من تأخر فی العودة إلى عائلته، بینما هُدمت أشباه المنازل على فقراء أحیاء المنطقة. وما بقی واقفاً، رافعات من حدید، تناجی الله عسى أن یحمی من بقی تحتها من بشر وحجر...
لکن بقیة المأساة، إن عدنا بعد قلیل إلى یومیاتنا کأنّ شیئاً لم یحصل. أو کأن الذی حصل هو حادث انقلاب باص. وکل کلام عن تحقیق وعلاج سیبقى على ما هو علیه. وما یأمله المرء، فی لحظات الغضب هذه، أن تسکن الهزة الجمیع لوقت طویل، عسى أن تبقى تذکّرنا بأننا لم نعد نملک حتى إدارة حزننا!