لبنان فی مفاوضات ترسیم الحدود البحریة... المخاوف والآمال
بعد أیام قلیلة فقط من إعلان لبنان عن استعداده لبدء محادثات غیر مباشرة مع الکیان الصهیونی لترسیم الحدود البحریة مع الکیان، ذکرت مصادر سیاسیة لبنانیة لصحیفة "الأخبار" اللبنانیة، صباح الاثنین، أن لبنان یعارض بشدة حضور وزیر الطاقة الإسرائیلی "یوفال شتاینتز" للمشارکة فی المحادثات، وأن إصرار مسؤولی الکیان على هذه المسألة قد ینهی المحادثات حتى قبل أن تبدأ.
ووفق البرنامج التی أعلنه نائب وزیر الخارجیة الأمریکی لشؤون الشرق الأوسط "دیفید شینکر"، من المقرر أن تجرى الجولة الأولى من المحادثات منتصف الشهر الجاری بحضور هذا المسؤول الأمریکی فی قاعدة الأمم المتحدة فی مدینة "الناقورة" بلبنان، والتی أعلنت عنها وسائل الإعلام فی 12 أکتوبر/تشرین الأول.
ووفق مسؤولین لبنانیین، فإن فریق التفاوض سیرأسه أیضاً جنرالات فی الجیش، وبمشارکة خبراء فی القانون الدولی والحدود.
الخلاف فی "المنطقة الاقتصادیة الخالصة"
لیس للبنان والکیان الصهیونی حدود بریة متفق علیها، وفقط بعد انسحاب الجیش الصهیونی من جنوب لبنان فی عام 2000، تم وقف إطلاق النار بین الجانبین على طول ما یعرف بـ "الخط الأزرق" - الحدود التی رسمتها الأمم المتحدة. وهذا الغموض فی رسم الحدود موجود أیضاً فی الحدود البحریة، بل حتى أثَّر علیها.
فی عام 2007، وقعت الحکومة اللبنانیة اتفاقیةً مع قبرص لتحدید حدودها البحریة، والتی تسمى فی اتفاقیة قانون البحار "المنطقة الاقتصادیة الخالصة"، لکن هذه الاتفاقیة لم یقبلها مجلس الوزراء اللبنانی بسبب الغموض الذی یکتنفها.
وفی نیسان 2009، حددت لجنة وزاریة جمیع إحداثیات حدود المنطقة الاقتصادیة الخالصة اللبنانیة على أساس النقاط المحددة فی الاتفاق السابق، بإضافة النقاط الشمالیة (من رقم 7 إلى 17)، والنقاط الجنوبیة للمنطقة (من 18 إلى 25).
تتعلق النقطة 23 من هذه المجموعة من الإحداثیات بالحدود الجنوبیة الغربیة للمنطقة الاقتصادیة الخالصة فی لبنان، وتقع على ما یبدو على الحدود بین الدول الثلاث، أی قبرص ولبنان والکیان الصهیونی.
فی عام 2011، حدد الکیان الصهیونی رسمیًا نطاق منطقته الاقتصادیة الخالصة، وکانت هذه النقاط التی حددها الصهاینة تتداخل مع النقاط الحدودیة الجنوبیة للمنطقة اللبنانیة.
تقع النقطة الجنوبیة الغربیة من المنطقة اللبنانیة على عمق 17 کیلومتراً تحت النقطة التی یعتبرها الکیان الصهیونی الحدود الشمالیة الغربیة لمنطقته. وهکذا، فإن هذا التداخل الذی یقارب 850 کیلومتراً مربعاً قد خلق مثلثًاً، یدعی کلاهما أنه ینتمی إلى منطقته الاقتصادیة الخالصة، وهذا هو مصدر الصراع. صراعٌ قد احتدم بسبب إمکانیة استخراج موارد النفط والغاز فی المستقبل.
تعتبر نقطة ترسیم الحدود البریة فی الناقورة، وهی النقطة "بی 1"، أهم عنصر من عناصر الخلافات فی الخرائط، والتی سیکون لها تأثیر کبیر فی رسم اتجاه خط الحدود البحریة، وبالتالی المنطقة الاقتصادیة الخالصة، وهذه النقطة فی الناقورة هی المکان الذی تمرکز فیه الجیش الصهیونی المحتل، رغم وجوده داخل الأراضی اللبنانیة.
دخل الجیش اللبنانی هذه المنطقة عام 2018. وإن حلّ هذا الخلاف البسیط على الأرض، یعنی تحدید وضع حوالی 17 کیلومترًا فی المنطقة الاقتصادیة الخالصة فی البحر.
أهمیة المحادثات الحدودیة بالنسبة للبنان
یتطلَّع اللبنانیون إلی موارد النفط والغاز فی هذه المنطقة منذ سنوات طویلة من أجل منافع اقتصادیة، لکن جشع الکیان الصهیونی فی هذه المناطق وکذلک الخلافات الداخلیة، منع تحدید وضع هذه المناطق حتى الآن.
کما أدى انشغال لبنان بشؤونه الداخلیة إلى قیام الکیان الإسرائیلی بزیادة استقلاله فی مجال الطاقة من خلال الغاز البحری فی السنوات الأخیرة، وتوقیع عقود بملیارات الدولارات مع الأردن ومصر.
الآن، وخاصةً بعد اندلاع الاحتجاجات على الوضع الاقتصادی غیر المواتی أواخر العام الماضی وخلق أزمة سیاسیة فی إدارة البلاد، یأمل المسؤولون اللبنانیون فی استخدام احتیاطیات النفط والغاز المحتملة، لإنقاذ الاقتصاد من الانهیار.
وفی هذا الصدد، قال "نبیه بری" رئیس مجلس النواب اللبنانی الذی یمثِّل لبنان فی المحادثات مع واشنطن لحل الخلافات الحدودیة مع الصهاینة، "إذا نجح الترسیم فسیکون أحد أسباب سداد دیوننا".
لقد فشل لبنان، الذی یعتبر أحد أکثر دول العالم مدیونیةً، فی سداد دیونه الدولیة فی آذار، وهی المرة الأولى التی یخفق فیها فی الوفاء بالتزاماته تجاه الأسواق الدولیة.
وفقدت العملة اللبنانیة أکثر من 80 بالمئة من قیمتها مقابل الدولار، وسط أزمة الدولار التی کادت تقضی على احتیاطیات البلاد من النقد الأجنبی. کما انهار القطاع المصرفی فی البلاد تقریبًا، ویُحرم المودعون من الوصول إلى حساباتهم بالدولار.
کذلک، تبلغ نسبة الدین إلى الناتج المحلی الإجمالی حوالی 170٪، وهی واحدة من أعلى المعدلات فی العالم. ومن المتوقع أن ینکمش الاقتصاد اللبنانی بنسبة 12 فی المائة هذا العام، بینما سیتم إنفاق نصف میزانیة الحکومة على تمویل الدیون. ویُعتقد أن نسبة السکان الذین یعیشون تحت خط الفقر فی لبنان، قد ارتفعت من 50٪ قبل الوباء إلى 75٪.
تم اکتشاف العدید من حقول الغاز الطبیعی البحریة المهمة فی شرق البحر الأبیض المتوسط منذ عام 2009، وأخیراً فی عام 2018 اتفق لبنان مع کونسورتیوم من الشرکات الروسیة والفرنسیة والإیطالیة، لبدء التنقیب فی دیسمبر 2020 فی کتلتین بحریتین قبالة الساحل الشمالی لبیروت.
وتحتوی إحدى هذه الکتل، الکتلة 9، على المیاه التی هی محل النزاع مع الکیان الإسرائیلی، ووفقًا لهذا العقد، کان من المفترض أن یتم الحفر هذا العام، لکن لم یتحقق ذلک بعد.
الدور الأمریکی غیر المحاید
الولایات المتحدة، التی مارست فی السنوات الأخیرة ضغوطاً کبیرةً على الحکومة اللبنانیة من خلال فرض عقوبات اقتصادیة على الشرکات والمصارف والشخصیات السیاسیة اللبنانیة، من أجل الضغط على حزب الله ونزع سلاح المقاومة اللبنانیة، تحاول إجبار لبنان على التفاوض وإبرام اتفاقیة حدودیة مع الصهاینة.
لکن فی خضم الضغوط الاقتصادیة والتدخلات السیاسیة فی لبنان، والتی کانت أحد أسباب تصعید الأزمة الاقتصادیة فی لبنان، أطلق الکیان الصهیونی خططه الاستکشافیة فی المناطق المتنازع علیها، والتی تحتج علیها بیروت، وهی إشارة إلى أن البیت الأبیض لیس وسیطاً محایدًا فی هذا الملف.
فی عام 2012، اقترح "فریدریک هوف" تقسیم 860 کیلومترًا مربعًا (330 میلًا مربعًا) من المیاه المتنازع علیها، والمعروفة باسم "خط هوف"، ولکن لم یتم قبول المقترح من قبل أی من الجانبین.
وفی عام 2016، حلَّ "أموس هوشتاین" محلّ هوف، لکن إجراءاته لم تنجح أیضاً. أما المبعوث الثالث فقد کان "دیفید ساترفیلد"، الذی حلّ محله "دیفید شینکر" بعد عام واحد فقط.
قام شینکر بأول رحلة له إلى بیروت فی أوائل سبتمبر للتحدث مع نبیه بری، لکنه عاد غاضبًا إلى الولایات المتحدة بعد سماعه ردًا سلبیًا، وفرض عقوبات علی "علی حسن خلیل" وزیر الاقتصاد وکبیر مساعدی نبیه بری، لدعمه حزب الله.
إن إدارة ترامب، التی اتخذت بوضوح مجموعةً واسعةً من الإجراءات الداعمة للمصالح غیر المشروعة والاحتلالیة للکیان الصهیونی، من أجل العودة إلى البیت الأبیض، تسعى لتحقیق مصالح أخرى فی هذه القضیة أیضًا.
وإذا تم تنفیذ هذه الاتفاقیة، فقد یکون للبیت الأبیض المزید من التعاون فی مجال الطاقة فی شرق البحر المتوسط، وهو ما تتطلع إلیه روسیا وفرنسا أیضًا. وهناک مؤشرات متزایدة على موارد الطاقة فی البحر الأبیض المتوسط، وخاصةً قبالة سواحل لبنان وقبرص والکیان الإسرائیلی.
شرکات النفط الأمریکیة، مثل "نوبل إنرجی"، هی إحدى شرکات التنقیب الرئیسیة التی تعاقدت مع الکیان الإسرائیلی. کما أزالت الولایات المتحدة الشهر الماضی قبرص، التی لها نزاع مع ترکیا بشأن موارد الغاز الإقلیمیة، من قائمة حظر الأسلحة بعد أربعة عقود، ووقعت اتفاقیةً مع لبنان والکیان الإسرائیلی فی هذا الصدد.
من ناحیة أخرى، من خلال إنشاء مرکز للطاقة فی هذه المنطقة، یمکن للولایات المتحدة أن تقلل فی النهایة من اعتماد أوروبا فی مجال الطاقة على روسیا، والذی یعدّ أداة ضغط رئیسیة بید موسکو.
من جهة أخرى، یتطلع البیت الأبیض وترامب عبر إجراء محادثات مباشرة بین لبنان والکیان الصهیونی حول الخلافات الحدودیة، إلی تفسیر ذلک بأنه یأتی فی سیاق رغبة العالم العربی فی التطبیع، على اثر إجراءات إدارته.
وعلیه، کما کشفت خطة صفقة القرن مؤخراً الوجه الحقیقی للوساطة الأمریکیة لمصلحة الصهاینة، فإن الولایات المتحدة وکما أشرنا لیست وسیطًا محایداً الآن أیضاً، وتسعى لإجبار بیروت على تقدیم تنازلات للکیان الصهیونی فی ترسیم الحدود البحریة، من خلال الضغط الشامل على لبنان.