ملامح انهيار النظام العالمي الممتد منذ الحرب العالمية الثانية
وقوف العالم في حالة انتظار لنتائج الانتخابات الأمريكية، ثم ترقب الحسم النهائي لمصير أميركا وهل سيتم تسليم السلطة بشكل سلس أم ستحدث مشكلة تؤدي الى قلاقل تنذر بحرب أهلية تغير من وجه أمريكا ووضعها العالمي رسميًا، بعد التراجعات العملية في السنوات الماضية، هو دليل جديد على ارتباط العالم بحبل استراتيجي واحد، وخضوعه لمنطق القوى العظمى وتبدلاتها وتغيرات توازنات القوى بها، وهو المنطق السائد فعليا منذ نهايات الحرب العالمية الثانية.
وقد يرجع الكثير من المحللين وخبراء العسكرية، جذور الصراعات والحروب الراهنة لنشأة الجيوش الوطنية والدول القومية لمعاهدة وستفاليا 1648 والذي ترتب عليه الاعتراف بسيادة الدول، ويؤرخ لها عسكريًا بأنها نموذج مثالي لحروب الجيل الأول، الا أن الأب الشرعي لصراعات الوضع الراهن وحروبه، هو النظام العالمي المتمخض عن الحرب العالمية الثانية، رغم ما مر به من تبدلات وتغيرات في نظام القطبية وتغيرات في خرائط الدول ومناطق النفوذ.
هذا النظام العالمي والذي يمكن تلخيصه بأنه مكون من هيئات ومؤسسات كبرى تعكس الصراع على الهيمنة والتسابق على النهب، مع وجود هياكل قانونية تشكل شرعية للنهب مرات، وكوابح تمنع الحرب الكبرى مرات اخرى، هو عرضة للانهيار بفعل عدة أشياء يمكن رصدها فيما يلي:
1- ذوبان الفوارق بين القوى الكبرى والقوي الصغيرة، والتي تم تسييدها عبر الفوارق والفجوات العسكرية والتكنولوجية من جهة، والفوارق الحضارية والثقافية والتي تم حصرها قسرًا في الديمقراطية الغربية، من جهة أخرى.
فاليوم يرى العالم كمّ التطابق بين الممارسة الديمقراطية الامريكية والتي تعد مضرب المثل في العالم، وبين ديكتاتوريات الدول الصغيرة والتي تعد مضرب المثل المضاد!
كما يرى العالم زيف الحديث عن الحريات، حيث يظهر كمّ التطابق بين دولة مثل فرنسا، تعتبر دولة التنظير للحرية والمساواة، وبين دول جاهلية تعد مثالًا للتمييز وعدم احترام التنوعات!
وعسكريًا، قلصت الحروب غير المتناظرة والتي شكلت جيلًا جديدًا من الحروب، الفجوة العسكرية بين القوى الكبرى، وبين التشكيلات العسكرية غير النظامية والتي تمتلك التدريب والمرونة وخفة الحركة وسهولة المناورة، اضافة الى تطور الأنظمة الصاروخية ودقتها ودخولها كعامل رادع وحاسم.
2- فقدان مصداقية الهيئات والمؤسسات الدولية بعد عقود من الفشل في حل الصراعات، وكذلك الازدواجية والانحياز القائم على الرشوة والتبعية، وهو ما يفقد هذه المؤسسات دورها الرئيسي المتمثل في ضمانة الاستقرار.
3- وهو ربما العامل الأهم، وهو فقدان فعالية تطور هذا النظام وتطويره لآلياته وأجياله من الحروب، فقد تطورت الحروب الى الجيل الرابع، والذي نشهده مسيطرًا على العالم الراهن، بكل أدواته من حيث الحرب الشاملة للغزو الثقافي وافشال الدول والاعتماد على الاعلام ووسائل التواصل والحصار الاقتصادي وتجنيد العملاء، توفيرًا لكلفة الحرب التقليدية.
الا أن هذا الجيل الرابع، لم ينجح في حل مشكلة الاستعمار، حيث انهارت الأنظمة التابعة، وصمدت الأنظمة المقاومة، رغم شراسة الاستهداف.
وطالما بقيت الأنظمة المقاومة وحركات المقاومة، فإن المعضلة الرئيسية لقوى الهيمنة والاستكبار تظل دون حل، وهو اعلان رسمي لفشل المناورات التي توظف النظام الدولي لاسباغ الشرعية على الهمجية والنهب، وفشل عملي لتطوير أجيال الحروب والتي دخلت في جيل خامس سيبراني، وهناك حديث عن جيل سادس.
الخلاصة هنا، هي أن الصراع في جميع أجياله وتطوراته، يخضع لمنطق ثابت، وهو الارادة.
أي أن الصراع هو صراع ارادات، وتنبثق من هذه القاعدة جميع أشكال التنوعات وتتعدد المجالات، وبالتالي فإن من يحافظ على صموده ويمتلك ارادته، ويؤمن بقضيته، فإنه يشكل قوة كاسحة تستطيع صد جميع الغزوات العسكرية والنفسية والاقتصادية والثقافية، بل وتستطيع تغيير النظام العالمي ذاته، عبر اعادة الانضباط لتوازناته، وكذلك لهيكله ومؤسساته.
ربما نَلمح حاليًا رِدة نحو أجيال سابقة من الحروب، فبعد سيطرة الجيل الرابع منذ (الربيع العربي)، وبعد الفشل في القضاء على المقاومة في ايران وسوريا ولبنان والعراق وفنزويلا، بدأت ملامح ونذر للارتداد للجيل الثالث بحروبه التقليدية، وملامح لأجيال سابقة عبر حروب أهلية متناثرة، وهذه الردة هي اعلان رسمي لفشل النظام العالمي بجناحيه السياسي والعسكري.
نعم هناك موت لهذا النظام وقد استوعبته وفطنت له المقاومة، بينما لم تفطن له أنظمة التبعية.