تصحیح المسار بین العراق والسعودیة.. هل تقرّ الریاض بما علیها؟
خطوات مهمة واجراءات سریعة، شهدتها الأسابیع القلائل الماضیة لاعادة احیاء العلاقات العراقیة - السعودیة بعد قطیعة وخصام ومشاکل وأزمات وغیاب للثقة، لاحت معالمها الاولى مع غزو نظام صدام لدولة الکویت فی صیف عام 1990، وامتدت حتى بعد سقوط ذلک النظام فی عام 2003، وبروز الکثیر من الحقائق والمعطیات التی کان من المفترض أن تفضی الى تصحیح المسارات الخاطئة وتعید بناء وترمیم الجسور المدمرة بین بغداد والریاض، کما حصل بین بغداد وعواصم عربیة واقلیمیة ودولیة عدیدة.
طیلة سبعة عشر عاما لم تتحلحل العقد الشائکة فی علاقات بغداد والریاض، بل أکثر من ذلک ظهرت عقد أخرى، رغم أن التواصل والحوار بین الطرفین لم ینقطع تقریبًا، الا أنه کان أشبه بحوار الطرشان کما یقولون، لأن ما کان یطرح بین الطرفین بمختف الصعد والمستویات الرسمیة داخل أروقة السیاسة وعبر المنابر الاعلامیة شیء، وما یجری فی المیدان شیء آخر، والکمّ الکبیر من الوقائع المخفیة والمعلنة یؤکد ذلک.
فبینما لم یترک کبار الساسة والمسؤولین الحکومیین السعودیین فرصة أو مناسبة الا وأکدوا فیها على أهمیة العلاقات البناء والایجابیة مع العراق، کانت الوقائع والحقائق على الارض - وربما ما زالت - تؤشر الى العکس من ذلک، ولعل الکثیرین یتذکرون أن الحکومة العراقیة نجحت فی الأعوام الأولى التی تلت الاطاحة بنظام صدام بإقناع العدید من الدول بإطفاء أو تخفیض دیونها المترتبة على العراق، الا أنهم لم یفحلوا بإقناع السعودیة باتخاذ ذات الخطوات، علما أن ما کان بذمة العراق لها هو عبارة عما قدمته لنظام صدام خلال حربه ضد الجمهوریة الاسلامیة فی ایران، أی إن کل ما قدمته الریاض لنظام صدام عاد على الشعب العراقی بالأذى والضرر، والأدهى من هذا، أن النظام السعودی ضغط کثیرا على الدول الخلیجیة -وفی مقدمتها الکویت- حتى لا تتساهل مع العراق!
والمسألة الأخرى، هی أنه فی الوقت الذی سعت فیه الکثیر من الدول الى اعادة تمثیلها الدبلوماسی فی العراق من خلال فتح سفاراتها مجددًا وتعیین سفراء لها، أحجمت الریاض عن ذلک لعدة أعوام، قبل أن تقوم بذلک أواخر عام 2015، وتعین ضابط استخبارات سابق هو ثامر السبهان سفیرا فی بغداد، والذی أثار الکثیر من الجدل وردود الأفعال الغاضبة فی الأوساط السیاسیة والشارع العراقی نتیجة تدخلاته وتجاوزه سیاقات عمله وحدود وظیفته الدبلوماسیة، حتى أرغمت الریاض بعد أقل من عام على استبداله بسفیر آخر هو عبد العزیز الشمری، من ذات الخلفیة العسکریة الأمنیة إلا أنه أکثر هدوءًا واعتدالًا من السبهان.
الى جانب ذلک، فإن السعودیة کانت أحد أبرز الأطراف الخارجیة التی تورطت بدعم وتمویل واسناد الجماعات والتنظیمات الارهابیة المسلحة فی العراق، سواء بالأموال أو الفتاوى التحریضیة أو الاعلام، وفی ملفات الجهات الأمنیة العراقیة، احصائیات ربما تکون دقیقة عن أعداد الارهابیین السعودیین الذین فجروا أنفسهم وسط تجمعات المدنیین فی الأسواق وأماکن العبادة والمدارس والجامعات، فضلًا عن استهداف المؤسسات الحکومیة، وکذلک بأعداد الذین تم القاء القبض علیهم وأودعوا فی السجون أو تم اعدامهم.
ناهیک عن أن الریاض، حرصت على مساعدة ودعم قوى وشخصیات سیاسیة عراقیة على حساب قوى وشخصیات أخرى، لتعزیز وتکریس الانقسامات السیاسیة وتعمیق الاختلافات والتقاطعات بین الفرقاء العراقیین.
هذه الحقائق والمعطیات التی تحوی بین طیاتها قدرًا کبیرًا من التفاصیل والخفایا، لا بد أن توضع على طاولة البحث والنقاش والتفاوض، حینما یراد تصحیح مسار العلاقات بین بغداد والریاض، اذ لا یکفی لتصحیح المسار، أن تبادر بغداد الى فتح أبوابها بمجرد أن الریاض أرادت ذلک.
لا شک أن اعادة فتح معبر عرعر الحدودی بین العراق والسعودیة، وتوظیف الأخیرة جزءًا من رسامیلها للاستثمار فی العراق، وتعزیز العلاقات فی المجالات والجوانب العسکریة والاستخباراتیة، خطوات مهمة وبناءة، ولکن یفترض أن تسبقها أو تترافق معها خطوات تفضی الى تصفیر أو حسم القضایا والملفات الخلافیة العالقة، وهی بلا شک قضایا وملفات حساسة وخطیرة، لا یمکن بأی حال من الأحوال تجاهلها والقفز علیها، والانطلاق من نقطة الصفر وکأن شیئًا لم یکن.
فمثلما طالبت الریاض وما زالت تطالب بدیونها المستحقة على العراق، وهی تسمى وفق القوانین الدولیة بـ"الدیون البغضیة"، فإنها مطالبة بتعویض العراق کدولة وحکومة وأفراد عما لحق به من أضرار مادیة وبشریة جراء الارهاب الذی کان للسعودیة دور کبیر فی ایجاده وتمکینه، وهذا ما لم یعد خافیًا على أحد.
فی ذات الوقت، فإنه لا بد من أن تضع الحکومة العراقیة سیاقات وآلیات تضمن عدم قیام السعودیة باستغلال الانفتاح الاقتصادی والسیاسی والأمنی لإلحاق المزید من الأذى والضرر بالعراق، أو اتخاذه میدانًا لتصفیة الحسابات مع أطراف أخرى، فضلًا عن ذلک، فإنه حتى بالنسبة للمشاریع الاستثماریة، من المهم بمکان أن تخضع لدراسات الجدوى الاقتصادیة بالنسبة للعراق، لا أن تمرر عبر المجاملات والمصالح الخاصة والحسابات الضیقة. فعلى سبیل المثال، یتطلب اعطاء الضوء الأخضر للاستثمار السعودی فی صحراء العراق الواسعة، تقدیرات دقیقة مسبقة عن أهمیة وضرورة مثل ذلک الاستثمار، من حیث أبعاده الاقتصادیة الایجابیة، کتوفیر فرص العمل للأیدی العاملة المحلیة، وتنمیة الواقع الزراعی فی الجوانب التی ما زالت الامکانیات والقدرات المحلیة عاجزة عن تحقیقها، فضلًا عن ضمان المحافظة على الثروات الطبیعیة - من قبیل المیاه الجوفیة - وعدم تبدیدها فی مشاریع قد لا تتناسب فائدتها مع حجم الثروات المهدورة، ناهیک عن وجوب الأخذ بعین الاعتبار مجمل الأبعاد الأمنیة الاستراتیجیة المتعلقة بمحددات ومعاییر الأمن الوطنی للبلاد.
بعبارة مقتضبة، حینما تفتح بغداد أبوابها للریاض، لا بد من التدقیق والتمحیص فی المیادین والمساحات والمجالات التی سوف تتحرک فیها وعلیها ومن خلالها، والنتائج والمخرجات المترتبة على کل ذلک، وبالطبع بعد اغلاق وتصفیة الملفات والقضایا السابقة - الراهنة، بالشکل الذی یحفظ حقوق العراق ومواطنیه، وعدم التفریط بها تحت ذرائع وحجج واهیة، وشعارات فضفاضة وعائمة، وأولویات مرتبکة وغامضة.