الأمم المتحدة ووکالاتها أداة للهیمنة الأمیرکیة
عقب الحرب العالمیة الثانیة، تأسست منظمة الأمم المتحدة بتاریخ 24 أکتوبرتشرین الأول 1945 فی مدینة سان فرانسیسکو الأمریکیة، تبعاً لمؤتمر دومبارتون أوکس الذی عقد فی العاصمة واشنطن. وخرجت الأمم المتحدة، کنتیجة لانتصار الحلفاء بزعامة أمریکا، وبالتالی فإنها تمثل انعکاسًا لطبیعة النظام الدولی الذی احتکم به العالم بعد الحرب العالمیة.
کانت الأرض التی شید علیها مبنى الأمم المتحدة منحة من رجل الأعمال الشهیر روکفلر، والذی تعد عائلته من أغنى العائلات فی مدینة نیویورک والولایات المتحدة ولعل مسألة المکان تعد مسألة رمزیة للولایات المتحدة.
ومذاک الوقت تتأثر المنظمة الدولیة بالتغیرات التی تطرأ على النظام الدولی طالما کانت هی تمثل انعکاسًا لتوازنات القوى الکبرى، بل إنها أصبحت فی کثیر من الأحیان مسرحا للصراع الدولی بین القوى الکبرى سواء داخل المنظمة أو خارجها، ومن ثم بدأت تتحول عقب انهیار الاتحاد السوفیاتی إلى أداة طیعة لخدمة أهداف الدول المسیطرة والمتفردة فی صنع القرار الدولی، مثلما حدث خلال أزمة الخلیج وحرب الخلیج الثانیة 1991م، وهذا جعلها أداة فاعلة للهیمنة الأمریکیة على النظام الدولی.
عملت الولایات المتحدة على لتنفیذ برنامجها الخاص لتحقیق أهدافها من إنشاء الأمم المتحدة، فالمتتبع لمسیرة إنشاء المنظمة یدرک أن الأوضاع الدولیة غیر المستقرة ألقت بظلالها على میزان القوى الدولیة لصالح الولایات المتحدة حیث کان لها الکلمة العلیا خلال المشاورات التی جرت لإنشاء المنظمة. کانت رؤیة "روزفلت" لمجلس الأمن بمثابة الشکل الجدید الذی یمیز المنظمة الجدیدة "الأمم المتحدة" عن عصبة الأمم حیث اعتبر أن صلاحیات أعضاء مجلس الأمن وسلطته التقدیریة الواسعة تقابل الاعتراف من قبل الدول الکبرى بحق الدول الصغیرة بعضویتها فی الجمعیة العامة ونیلها الاستقلال والمساواة التامة فی التصویت، وقد اختلف تعامل الرؤساء الأمیرکیین مع المنظمة إلا أن الهدف لم یتغیر وهو اعتمادها کأداة للهیمنة الأمیرکیة، وقد أظهرت إدارة ترامب العنجهیة الأکبر فی التعامل مع المنظمة الدولیة.
المال أداة ضغط على الأمم المتحدة
تعد الولایات المتحدة، الأکثر من بین الدول التی تساهم فی میزانیة الأمم المتحدة، بنحو خمس المیزانیة. ولعل هذا الدعم الأمریکی له أسبابه وأهدافه، والتی تتمثل فی مسألة الهیمنة والسیطرة النسبیة على منظمات الأمم المتحدة واستخدام ذلک فی الضغط على الدول لتحقیق أهداف سیاسیة. وتعتمد فکرة السیطرة الأمریکیة على المنظمات الدولیة من خلال مساعدات واشنطن الکبیرة المقدمة لها، ما یعنی أن هذه المساعدات مرهونة بمدى موافقة المنظمات الدولیة للسیاسة الأمریکیة، حتى لو کانت مخالفة للقوانین الدولیة، أو الأخلاق العالمیة التی تدّعیها أمریکا.
وتعد المیزانیة الأمیرکیة للأمم المتحدة، أداة للسیطرة على المنظمة، وهذا ما انعکس مع إدارة دونالد ترامب وقبله أوباما وغیرهما من الرؤساء الأمیرکیین، وقد خص ترامب هیئة الأمم المتحدة والوکالات المتخصصة التابعة لها بقسط کبیر من النقد اللاذع، حین انتقد الأمم المتحدة ووصفها بالضعف التام وعدم الکفاءة وقد صرح خلال خطابه فی الجمعیة العامة فی سبتمبر/ایلول 2017م، أنه لیس من العدل أن تتحمل الولایات المتحدة القسط الأکبر (حوالی 22%) من الأعباء المالیة للأمم المتحدة.
واتخذ ترامب سلسلة انسحابات وتهدیدات متتالیة بحق المنظمات الدولیة، فقد انسحب من هیئات الأمم المتحدة التی تحکم الصحة وحقوق الإنسان، والاتفاقیات العابرة للقارات ومتعددة الأطراف مثل اتفاقیة المناخ، والسیطرة على الأسلحة، وفرض ترمب قیوداً جدیدة على الهجرة، ومعارک جمرکیة مختلفة.
ففی أکتوبر/تشرین الأول 2018 انسحبت إدارة ترمب من معاهدة الخدمة البریدیة "أجواء مفتوحة"، وفی أبریل/نیسان 2019 انسحبت أمریکا من معاهدة تجارة الأسلحة الدولیة التی تبنتها الأمم المتحدة لإضفاء طابع أخلاقی على التجارة الدولیة للأسلحة.
واستمر مسلسل الانسحابات، ففی أغسطس/آب 2019 انسحبت أمریکا رسمیاً من معادلة الأسلحة النوویة متوسطة المدى متهمة روسیا بخرق الاتفاقیة التی نشأت عام 1987، ورد بوتین بتعلیق عمل بلاده بالمعاهدة ذاتها، وفی نوفمبر/تشرین الثانی من العام نفسه انسحبت الولایات المتحدة الأمریکیة رسمیاً من اتفاقیة باریس لتغیر المناخ، واتهم ترامب فی وقت سابق علماء المناخ بأنهم ینطلقون من أجندات سیاسیة، بعد تحذیرهم من مخاطر تجاوز الاحترار.
وکانت أخطر التهدیدات والانسحابات الأمریکیة وقف إدارة ترمب الاشتراکات المالیة الأمریکیة فی منظمة الصحة العالمیة منتصف أبریل/نیسان 2020 فی أوج انتشار فیروس کورونا عالمیاً.
انسحابات لمصلحة الاحتلال الإسرائیلی
القضیة الفلسطینیة کانت لها حصة کبیرة من التعامل الأمیرکی المتعجرف عبر الأمم المتحدة، فقد هددت الولایات المتحدة السلطة الفلسطینیة فی حال استمرار انضمامها إلى المنظمات الدولیة، ویرى المتتبع لسیاق الانسحابات أو التهدیدات الأمریکیة أن جزءاً مهماً منها جاء بصورة مباشرة لمصلحة الاحتلال الإسرائیلی، بدءاً من منظمة "الیونسکو" إلى مجلس حقوق الإنسان، والمحکمة الجنائیة الدولیة.
ففی أکتوبر/تشرین الأول 2017 قررت أمریکا الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربیة والعلم والثقافة "یونسکو" انحیازاً لإسرائیل التی تبعتها بالانسحاب، وأوقفت أمریکا مساعداتها المالیة للمنظمة، بعد قرار الیونسکو اعتبار مدینة القدس إسلامیة.
تجدر الإشارة إلى أن إدارة الرئیس الأمریکی السابق باراک أوباما توقفت عام 2011 عن دفع مخصصاتها المالیة السنویة التی تمثل 22٪ من میزانیة الیونسکو بعد أن قبلت المنظمة بفلسطین عضواً کامل العضویة فیها.
وفی یونیو/حزیران 2018 انسحبت إدارة ترامب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بعد تصویت المجلس لمصلحة إجراء تحقیق فی سقوط شهداء مدنیین فی قطاع غزة، متهماً إسرائیل بالاستخدام المفرط للقوة، وفی أکتوبر/تشرین الأول من العام نفسه انسحبت إدارة ترامب من بروتوکول اتفاقیة فیینا الاختیاری لحل النزاعات، بعد تقدیم السلطة الفلسطینیة طعناً على قرار نقل السفارة الأمریکیة من تل أبیب إلى القدس.
لقد أدى تعامل الإدارات الأمیرکیة السیئ مع الأمم المتحدة، إلى کشف الوجه الحقیقی للولایات المتحدة الأمیرکیة، التی همها الأوحد السیطرة العالمیة، خاصةً أنها استخدمت الأمم المتحدة فی مرات عدة من أجل سیطرتها، عبر الحصول على قرارات تدخلها إلى مناطق متعددة کالصومال وافغانستان والعراق وغیرها، فکیف إذا کان التعامل السیئ فی ظل أزمة کورونا، حیث یقول کریستین لی فی Foreign Affairs إن انسحاب الولایات المتحدة من وکالات الأمم المتحدة من دون طرح بدائل واضحة، ستزید عدائیة العالم تجاه القیم والمصالح الأمیرکیة. على أرض الواقع، اتّضح هذا الاحتمال بشکلٍ مقلق فی منظمة الصحة العالمیة تحدیداً.
وتطرح التعاملات السابقة والتهدیدات الأمریکیة للمنظمات والمعاهدات الدولیة تساؤلات مهمة فی ظل الأزمات الدولیة المعاصرة، أسئلة کثیرة حول الأخلاق والمصالح، إذ کما یظهر فإن التعامل الأمیرکی هو تعامل لااخلاقی من أجل الهیمنة العالمیة.