من العمامة للخوذة
من العمامة للخوذة
(ميثم حاتم)
سارت الأمور بسرعة، ويُختصر تاريخ تلك البرهة الزمنية في بضع كلمات: "اعتصامات، داعش، سقوط المدن، الحشد الشعبي، فتوى المرجعية، الجهاد الكفائي"، وهكذا بدأت مرحلة جديدة من تاريخ العراق، مرحلة مملوءة بدماء الشهداء التي تناثرت على أرض واد الرافدين لتنبت من كل قطرة دم لبنة تشكل حصنا منيعا يحمي المقدسات.
فبعد تشكيل الحشد الشعبي وتأييده بالغطاء الشرعي عبر فتوى الجهاد الكفائي الذي أصدره السيد السيستاني، بدأت الحشود تتحشد للانظمام إلى ساحات القتال، فكانت هناك مبادئ عُليا تحوم في الجبهات، مبادئ يجب أن تُصان، فالهدف الأساس للمتطوعين لم يكن سوى الدفاع عن الدين والوطن، فكان الوطن جريح ولم ينقصه نهشا جديدا لعظامه، والدين هو أسمى ما يمتلكه هؤلاء، فلذا كانوا مستعدين للتضحية بالغالي والنفيس من أجل إعلاء كلمة الحق. وما زاد الحماسة في الأمر هي أن الحرب لم تكن حربا بين جهتين متخاصمتين فحسب، بل كانت حربا عقائدية بين قوى الخير من جهة، وقوى الشر من جهة أخرى، بين أصحاب الحسين (ع) وبين جيش يزيد.
لم ينس هؤلاء حرق الخيام على آل بيت النبوة في كربلاء، وصدى صوت ذاك الحرق في هدم البقيع وتفجير سامراء، فلذا لن يسمحوا بتكرار المأساة بيد داعش.
ومن منطلق القيم والمبادئ، وبسبب تلك الفتوى التي هزت التاريخ، كان حري بالحوزة العلمية أن تكون سباقة، وهكذا ترك رجال الدين والحوزويون صالات الدراسة والمناقشة ليتجهوا لساحات القتال والمحاربة، ومسكوا بجانب سلاح القلم، أسلحة تناسب العدو الجديد، فالعدو يتمتع بجهل مركب إضافة إلى وحشية نادرة، وأصبحت تلك العمائم التي طالما كانت شعارا لعلماء الدين خوذة عسكرية ملطخة بدماء طاهرة.
الحوزة دائما تحاول أن تعطي، ففي السلم، ترى الحوزة تنشر الوعي والعلم، وفي الحرب يقفون مع سائر أخوانهم ليحاربو الظلم والدمار، محاولين إعادة السلم والأمان ونشره في المجتمع، فهم ينفقون في سبيل الله من علمهم ودمائهم، بكل فخر ورحابة صدر.
وخلال هذه المدة الزمنية، قدمت الحوزة العلمية مئات الشهداء ضد عصابات داعش، وكان في طليعتهم السيد جعفر الموسوي، والذي استشهد بقرب كركوك سنة 2014. وسالت دماء هذه العصبة المؤمنة في صلاح الدين والأنبار ونينوى، وغيرها من المناطق العراقية والسورية.
يذكر كثير ممن شاهدو القتال عن كثب، من أبطال الحشد الشعبي والإعلاميين وغيرهم، قصصا بطولية يسجلها التاريخ في طياته بكل فخر وشرف، قصصا بعضها تُعيدنا بالزمن إلى واقعة الطف، ولِمَ لا؟! فهؤلاء هم أبناء الحوزة التي أسسها الإمام الصادق وهم من سلالة العلماء الذين طالما حاربوا الاستعمار والأعداء، هؤلاء هم أبناء السيد الخامنئي ومحمد باقر الصدر والإمام الخميني والحائري الشيرازي والآخوند الخراساني، وهم من سلالة شهداء الطف وأصحاب الإمام الحسين عليه السلام.
كما ولم يقتصر الحضور في الجبهات من قبل الطلاب والشباب، بل هناك كثير من الأساتذة في الحوزة والعلماء والفضلاء والخطباء والمحققين والباحثين، وهناك سباق بينهم للوصول إلى غاياتهم السامية التي طالما حلموا بها، وطالما درسوها ودرّسوها، قرؤوها وكتبوها.
فلم يكن أمرا غريبا أن تتوالى مسيرة الشهادة والفداء في الحوزة العلمية، وبالتأكيد ستستمر حتى يأتي الوعد الإلهي بالنصر ضد أعداء الدين والبشرية، وتحرير آخر رملة من أرض المقدسات، ونكس راية الإرهاب السوداء، وإعلاء راية إسلام السلام.