كيف أستطاع الاقتصاد الايراني يهزم الحصار و العقوبات
إذا أردنا أن نجري تقييماً لأي اقتصاد في العالم، من المفيد أن نبحث في النموذج الإقتصادي المعتمد. خبرنا في لبنان وعلى مدى عقود النموذج الريعي الإستهلاكي. الأخير يكاد يكون علّة العلل في كل ما يحدث على الساحة المالية والإقتصادية.
فأن يكون الإقتصاد ريعي يعني أن يكون إتكالي، تابع، مرتهن، مديون، غير منتج وغير مفكّر وما إلى هنالك من سمات تطبع أسوأ النماذج الاقتصادية. على النقيض تماماً، يأتي الإقتصاد المنتج. هذا النموذج والاقتصاد الريعي يشكّلان خطان متوازيان لا يلتقيان. أينما وجد نموذج الإقتصاد المنتج وجد النمو، ووجد الإكتفاء الذاتي وتحقق الأمن الغذائي وما إلى هنالك من مفاهيم ومؤشرات ضرورية لبناء اقتصاد فاعل. بهذا المعنى، يأتي الاقتصاد الإيراني كأفضل نموذج اقتصادي منتج. قوّة هذا الإقتصاد لا تكمن فقط في كونه اقتصاداً تمكّن من التفوق في هذا القطاع أو ذاك. قوته يستمدها من الظروف التي عمل فيها، إذ تمكّن هذا الإقتصاد ورغم سياسة الحصار الجائرة والعقوبات من إبهار الأعداء بتقديم نموذج "الإقتصاد المقاوم" مع ما يحمله هذا المفهوم من دلالات تتخطى المفهوم الاقتصادي البحت لتصنع من الضعف قوّة وتقدّم ما يُدهش العالم.
ناصرالدين: الاقتصاد الإيراني صُنّف عام 2010 كثالث أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط
الكاتب والباحث الاقتصادي زياد ناصر الدين يفصّل في حديث لموقع "العهد" الإخباري مؤشرات الاقتصاد الإيراني. إنّه اقتصاد يمتلك هوية اقتصادية تتمثّل بـ"الاقتصاد المقاوم" أي اقتصاد الناس. هذه الهوية تخدم الاقتصاد الوطني وتحمي مقدرات الدولة للإستفادة منها لمصلحة الوطن لا الخارج. الاقتصاد الإيراني صُنّف عام 2010 كثالث أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، والـ29 في العالم حيث بلغ ناتجه المحلي حينها ما يقارب الـ337 مليار دولار. صحيح أن النفط كان يُشكّل القسم الأكبر من هذا الناتج المحلي، ولكن يجب أن لا نغفل أنّ الولايات المتحدة الأميركية بدأت الحصار على إيران عام 1979 واتخذت قضية العقوبات وسياسة الحصار الاقتصادي كخيار استراتيجي بصراعها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما بعد انتصار الثورة الإسلامية.
الناتج المحلي الإيراني وصل إلى 400 مليار دولار عام 2015
وسط هذه الظروف، سارعت إيران -يقول ناصرالدين- إلى التخطيط الصحيح لمواجهة هذا الحصار. وهنا يتحدّث ناصر الدين بلغة الأرقام عن الإقتصاد الإيراني. الناتج المحلي الإيراني وصل إلى 400 مليار دولار عام 2015، وبالتالي عندما تمّ الإتفاق النووي تم على أساس أن هذا البلد يتطوّر بشكل كبير جدا. تصنيف الاقتصاد الإيراني كان في المرتبة العشرين في العالم. ولو أردنا جمع الناتج المحلي للدول المحيطة بإيران من أفغانستان إلى باكستان، تركمنستان، أذربيجان، أرمينيا، إذا أردنا جمع الناتج المحلي لهذه الدول فإنه -بحسب ناصرالدين- أقل من الناتج المحلي لإيران المحاصر والمعاقب. حتى أنّ هذه الدول لا تملك اكتفاء ذاتياً، بينما إيران تمتلك اكتفاء ذاتياَ زراعيا، صناعياً، اقتصادياً، تجارياً، صحياً، مالياً، خدماتياً، تقنيات نانو، وصولاً إلى الموضوع النووي. فضلاً عن ذلك، تمتلك ايران 10 بالمئة من احتياطي النفط الخام في العالم، و15 بالمئة من احتياطي الغاز في العالم، أضف إلى أنّ إيران دولة شابة بامتياز حيث تمتلك طاقة شبابية تتجاوز الـ 40 مليون مواطن.
رغم الحصار..نمو الانتاج الزراعي وصل إلى 21 بالمئة
طيلة السنوات الماضية، عملت إيران على تثبيت هويتها في الاقتصاد المقاوم، فكان هذا السعي مقروناً بالعمل الحثيث في الكثير من المجالات. في الخطوة الأولى -يقول ناصرالدين- عملت إيران بشكل أساسي على تحقيق الإكتفاء الذاتي. هذا الهدف كان قائماً بالدرجة الأولى على زيادة الناتج المحلي خاصة الزراعة والصناعة. بالموضوع الزراعي، يُبيّن ناصرالدين كيف عملت إيران على تطوير هذا القطاع، ففي عام 1990 كانت المياه تصل إلى 20 بالمئة من الأراضي الزراعية، وبعد أن جرى وضع خطة في تلك الفترة أصبحت المياه على مشارف عام 2005 تصل إلى 90 بالمئة من الأراضي الصالحة للزراعة وسط إبداع هندسي. إزاء هذه الخطوة ارتفع الإنتاج بشكل كبير جداَ -وفق ناصرالدين- فالناتج الزراعي اليوم يصل إلى حدود العشرين بالمئة من الناتج المحلي. وعليه، لم تكتف إيران بتأمين الإكتفاء الذاتي بل باتت دولة مصدّرة. نسبة نمو الإنتاج الزراعي وصلت بين عامي 2019-2020 -ووسط أقصى حصار- وصلت إلى 21 بالمئة، والتصدير إلى 13 بالمئة.
شتان ما بين الإقتصاد في زمن الشاه وبعد انتصار الثورة الإسلامية
في حضرة الاقتصاد الإيراني يطول الحديث فقد حوّلت الجمهورية الإسلامية قضية العقوبات كانت تقسم إلى ثلاثة أقسام: عقوبات مالية، تجارية وذكية، حولتها إلى فرصة وإبداع داخلي لتحقيق ما تريد. برأي ناصرالدين، كان المطلوب أن يكون السوق الإيراني كما كان أيام الشاه. لكن الواقع يشير إلى أنّ هناك فارقا كبيرا بين إيران أيام الشاه وإيران بعد انتصار الثورة الإسلامية. إيران أيام الشاه كانت دولة تمتلك النفط والغاو فقط والذي تحصل عليه بريطانيا بشكل كامل، مقابل أن تكون إيران سوقا استهلاكيا في أوروبا، إذ كل المنتجات في إيران كانت مستوردة من الخارج. وبهذا المعنى، كان السوق الإيراني استهلاكي غير إنتاجي غير مفكر. أما إيران بعد الثورة فأصبحت تنتج كل شيء في الداخل ولا تستورد أي شيء من الخارج، ما يشكّل نموذجاً مهما جداً.
اكتفاء ذاتي على صعيد المنتجات الزراعية والمواد الأولية المهمة للصناعة
يغوص ناصرالدين أكثر في القطاعات الإنتاجية في الإقتصاد الإيراني. على صعيد المنتجات الزراعية، ثمّة اكتفاء ذاتياً في القمح، الأرز، الفستق الحلبي، الزعفران، التبغ والتنباك، الشعير، الذرة، القطن، الشاي، الفواكه، البطاطا، التوابل، الحمضيات، الفول، الكمون، الزبيب والجوز. وعلى صعيد الإنتاج الصناعي، تبين بحسب الدراسات أنّ الإقتصاد الإيراني يمتلك جميع المواد الأولية التي تحتاجها الصناعة، وبالتالي فهذا الأمر مهم للإقتصاد المقاوم للحد من التضخم وزيادة النمو من خلال الإنتاج الصناعي وخلق فرص عمل متعددة لمجموعة كبيرة من القطاعات.
صناعات متعدّدة ومتنوعة
وحول أهم الصناعات الموجودة في إيران، يشير ناصرالدين إلى صناعة المواد الغذائية والمشروبات والتي تشكّل 16 بالمئة من الناتج المحلي. هذه الصناعات تمكّنت عام 2015 -عندما لم يكن هناك حصار- من جني 9 مليار دولار كإيرادات للدولة. صناعة النسيج والملابس الجاهزة والتي تشكل 11 بالمئة من الناتج الملحي، تمكنت في عام 2016 من تصدير منتجات بحوالي المليار دولار إلى الخارج، أضف إلى أنّ هناك صناعات عدة مهمة كصناعة الآلات والمعدات الصناعية، الصناعات التحويلية، صناعات النفط والغاز، الخام، الحديد، النحاس، الزنك، الكبريت، والمنغنيز. صناعة مواد البناء، وصناعة الزجاج، إذ تنتج إيران 1.2 مليون طن سنوياً من الزجاج، وهذه الصناعة تعتبر الثالثة عالمياً رغم الحصار. وعندما منعت الدول من التعامل مع إيران كان هناك 14 دولة في العالم تحصل على هذه الصناعة من إيران بشكل أساسي كالهند، البرازيل، دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
إنتاج الحديد وصل عام 2015 إلى 10 مليون طن
وفي ما يتعلق بصناعة الحديد، فتشير البيانات -وفق ناصرالدين- إلى أنّه وفي عام 2015 وصل إنتاج الحديد إلى 10 مليون طن، وكانت إيران تتجه من خلال خطتها لعام 2025 أن تنتج ما يقارب الـ55 مليون طن لتصبح الدولة الثالثة عالمياً في هذا الإطار، وما زالت مستمرة في هذا المشروع رغم العقوبات والحصار.
جامعات في المرتبة التاسعة عالمياً
وفي سياق مقاربته للإقتصاد الإيراني المقاوم، يتطرّق ناصرالدين إلى الأمن الغذائي القائم على وجود السلع بشكل أساسي في الأسواق ومكافحة الإحتكار. تماماً كما يتطرق إلى مفهوم العدالة الاجتماعية الذي تعمل عليه إيران وفق رؤية آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي الذي يؤمن بأن العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال تأمين العلم والطبابة. هذان القطاعان مؤمنان في إيران مجاناً بنسبة 90 بالمئة. حتى أن تصنيف الجامعات بات متقدماً، فجامعة "شريف" للهندسة والتكنولوجيا والمعترف بشهادتها دولياً تعد الجامعة التاسعة في العالم بحسب تصنيف "الترتيب الأكاديمي للجامعات العالمية".
طبابة متقدّمة وشبه مجانية
أما الطبابة، فالوزارات والمؤسسات المعنية بالصحة توفّر الطبابة بشكل شبه مجاني وتدعم تطوير القطاع الصحي بشكل كبير جداً وبالتالي فالإنتاج العلمي بإيران في قطاع الصحة وصل إلى نسب مرتفعة جدا خاصة أن إيران حققت تقدما كبيراً على صعيد الأمراض المستعصية، السرطان، زراعة الأعضاء، جراحة العيون. أكثر من ذلك، يلفت ناصرالدين إلى أن هذا البلد سجّل إنتاج أكثر من 34155 مقال علمي عام 2012، وفي 2015 وصل الإنتاج إلى 33 ألف مقال علمي، وفي عام 2019 وصلت المقالات العلمية إلى 34 ألف مقال.
دولة ذات شخصية مستقلة
وفي ما يتعلق بالهيكلية الإقتصادية في إيران، فالجمهورية الإسلامية ذات شخصية مستقلة اقتصادياً في المنطقة وهذه إحدى إنجازات الثورة التي أنتجت دولة ذات شخصية مستقلة. هذا الواقع يدفع بالغرب إلى الشعور بالقلق الكبير. وفق ناصرالدين، فإن الهيكل الإقتصادي الإيراني هو الأكثر تنوعاً مقارنة بالدول الموجودة كأعضاء في منظمة "أوبك". صحيح أن النفط والغاز يشكل القطاع الرائد في إيران ولكن نضيف إليه قطاع البتروكيماويات، الصلب والغاز، الحديد، النسيج، صناعة السيارات إذ تنتج إيران في ذروة الحصار مليون و600 ألف سيارة، الخدمات المالية والبورصة، صناعة المواد الغذائية، صناعة الأدوية، الصناعة العلمية من رسائل ودراسات عليا، علم الفضاء، هندسة الطرقات، تكنولوجيا النانو، المرافئ البحرية والجوية، القدرة النووية الاقتصادية السلمية الإنتاجية.
موقع إيران الجغرافي مهم جداً
وفي سياق مقاربته لملف الاقتصاد الإيراني، يتطرّق ناصرالدين إلى موقع إيران الجغرافي. الجمهورية الإسلامية تطلّ على مضيق هرمز والذي يعتبر أهم مضيق في العالم على الصعيد النفطي حيث يمرّ عبره 17 مليون برميل نفط يوميا أي ما يقارب ثلث تجارة النفط المنقولة بحراً، والتي تشكّل 20 بالمئة من إجمالي إنتاج النفط عالمياً. كما تملك إيران 3.7 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي يومياً أي ما يمثّل فعلياً 30 بالمئة من تجارة الغاز الطبيعي المسال عالميا. عام 2015 بلغ احتياطي النفط في إيران 158 مليار برميل. وهنا نتحدّث عن 10 بالمئة من احتياطي النفط بالعالم و13 بالمئة من احتياطي منظمة أوبك المصدرة للبترول. ويوضح المتحدّث أنّ 70 بالمئة من احتياطي النفط الخام الإيراني موجود بحقول برية وتكلفة استخراجه ليست عالية. ولا ينسى ناصرالدين أن يتناول بحر قزوين حيث الإكتشافات النفطية التي لم تصدر بعد، فاحتياطي الغاز يصل في إيران إلى ألف و207 تريليون قدم مكعب ما يعطيها المرتبة الثانية عالمياِ من احتياط الغاز الذي يكفي أوروبا لمئة عام قادمة.
اقتصاد مرحلة ما بعد أميركا
وفي الختام، يشدّد ناصرالدين على أنّ الإقتصاد الإيراني جاهز اليوم لتطبيق أكبر اتفاقية اقتصادية تجارية مع الصين تصل قيمتها إلى 600 مليار دولار على مدى 10 سنوات ما سيعطي أهمية للدور الإيراني كمدخل للشرق إلى الغرب وكمعبر للغرب إلى الشرق. أهمية النموذج الإقتصادي في إيران تكمن بأنّه سيكون اقتصاداً مستقلاً وبمرحلة ما بعد أميركا، يختم ناصرالدين.