ماذا یعنی أردوغان من التّحذیر بأنّ الدّور على المَدینة ومکّة بعد القُدس المُحتلّة؟

هل یَغمز من قناة السعودیّة؟ ولماذا نَعتقد بأنّ الشهید إبراهیم أبو ثریا لیس مُقعدًا لأن الإعاقة فی العُقول ولیس السیقان؟ وهل سَتُغیّر انتفاضة “أهل الرّباط” المِنطقةَ العربیّةَ بأسْرِها؟     عبد الباری عطوان الرئیس الترکی رجب طیب أردوغان، ومُنذ فَوزِ حِزبه بالسّلطة قبل 15 عامًا فی انتخاباتٍ تشریعیّةٍ حُرّةً نزیهة، لم یَتوقّف عن الإدلاء بالتّصریحات فی مَواضیع شتّى ومُتعدّدة، لکن ما وَرد على لِسانه مساء الجُمعة فی خِطابٍ ألقاه فی مهرجان فی إسطنبول، ربّما یُشکّل علامةً فارقةً فی حیاتِه السیاسیّة، لِما یَنطوی علیه من دلالات، ورسائل فی الوَقت نفسه، ونحن نَحکُم على الظّواهر، أمّا البواطِن فالله وَحدُه جلَّ وعَلا الأعلم بِها. فعندما یُحذّر من أنّه “إذا فقدنا القُدس فلن نَتمکّن من حِمایة المدینة المُنوّرة، وإذا فقدنا المدینة، فلن نَستطیع حِمایة مکّة، وإذا سقطت مکّة، فسنفقد الکعبة المُشرّفة”، فهاذ یعنی أن الرئیس الترکی یَشعُر بوجودِ خَطرٍ حقیقیّ یُهدّد المُقدّسات الإسلامیّة علیها، ویَرى أن من واجِبه کسلیل الإمبراطوریّة العُثمانیّة، الانتفاض للدّفاع عنها کمُسلم مُؤمن بالله ورسوله ورسالته وعقیدته السّمحاء. *** هذا التّصریح المُهم، بَل والخَطیر، الذی جاءَ بعد یَومین من انعقاد القِمّة الإسلامیّة التی تَزعّمها فی إسطنبول، ربّما یَنطوی على غَمز من قناةِ القِیادة السعودیّة التی قاطعت هذا المُؤتمر بطَریقةٍ مُلفتة، عندما خفّضت تَمثیلها فیه إلى درجة وزیر الأوقاف، وتَردّد أنّها طالبت دول عدیدة بفِعل الشیء نَفسه لإفشاله، کما لوحظ أیضًا اهتمام الرئیس أردوغان بالعاهل الأُردنی الملک عبد الله الثانی، الذی جَلس على یَمینه على مِنصّة القِمّة، وأکّد فی خِطابه الذی ألقاه على الرعایة الهاشمیّة للمُقدّسات الإسلامیّة، باعتباره حَفید محمد “الهاشمی” صلى الله علیه وسلّم. من المُؤکّد أن الرئیس أردوغان عندما یُحذّر مِلیار ونصف مِلیار مُسلم یَنتشرون فی أنحاءِ المَعمورة من خَطر یُهدّد هذهِ المُقدّسات، فإنّه یُحدّد مَصدر هذا الخَطر فی إسرائیل والدّعم الأمریکی المَفتوح لها لتَهویدِها، وتَحویلها، أی إسرائیل، قوّةً إقلیمیّةً عُظمى، تُهیمن على المِنطقة بأسْرِها، وتَستبعد غیر الیَهود فیها. ربّما تکون هُناک أهداف سیاسیّة خَلف تَحرّک الرئیس أردوغان هذا، خاصّةً أن القِمّة الإسلامیّة الأخیرة التی تَزعّمها أظهرت تحالفه القویّ مع إیران التی تَمثّلت برئیسها السید حسن روحانی، واعتباره النّواة لمِحورٍ إسلامیٍّ جدید غیر طائفی، یَجمع المَذهبین الإسلامی الرئیسیّین، السُّنّة والشّیعة، تحت سَقف واحد (جمیع القِمم الإسلامیّة التی عُقدت فی السّنوات الأخیرة فی الرّیاض استثْنِیت إیران منها)، ولکن لا یُمکن أن نتجاهل الأطماع الیهودیّة، لیس بالمَسجد الأقصى التی تتمثّل فی زَعمِهم بأنّه أُقیم فَوق هیکل سلیمان، وإنّما أیضًا فی المَدینة المُنوّرة، أو “خیبر” التی طَردهم مِنها الخلیفة الفاروق عمر بن الخطاب، رضی الله عنه، وقال کلمته المَشهورة “لا یَجتمع دینان فی المَدینة”. لم یُخفِ الکَثیر من القِیادات الیهودیّة مَطالبهم من العَودة إلى “خیبر”، وقالوا ذلک صراحةً أکثر من مَرّة، واعتمدوا فی ذلک على أدلّةٍ تاریخیّةٍ عدیدة، بالطّریقة نفسها التی تَحدّثوا فیها عن القُدس، وباقی الأراضی الفِلسطینیّة الأُخرى المُحتلّة، بل أکثر شراسةً ویَتبعون أُسلوب التدرّج، الیوم القُدس، وغدًا المدینة المُنوّرة، وبًعد غَدٍ مکّة المُکرّمة. أهل الرّباط فی المدینة المُقدّسة، الذین اختارهم الخالق، جلَّ وعلا، للدّفاع عن المَسجد الأقصى، وباقی المُقدّسات العَربیّة والإسلامیّة التی بارکَ الله حَولها، یَقومون بِواجِبهم على أکمل وَجه، ویُقدّمون أرواحهم ودِمائهم دِفاعًا عنها بکُلِّ رُجولةٍ وشَجاعةٍ، وارتفع عددُ الشّهداء حتى الآن إلى أکثر من عَشرة، والجَرحى بالآلاف، فی وَقتٍ یَتنصّل الکثیر من الزّعماء العَرب من واجِبهم فی نُصرتِها والدّفاع عَنها بطریقةٍ مُعیبةٍ ومُخجلةٍ، والأکثر من ذلک یُجاهرون بتَحالفهم مع القَتلةِ الإسرائیلیین، ویَتباهون بالتّطبیع مَعهم، باعتبارهم الحُلفاء المَوثوقین الذین یُمکن الاعتمادُ عَلیهم فی مُواجهة أیِّ أخطارٍ یُمکن أن تتهدّدُهُم، ویُؤکّدون أنّهم لم یَقتلوا مُواطِنًا واحِدًا من مُواطِنیهِم. الدّفاع عن الأُمّة الإسلامیّة وکَرامَتِها ومُقدّساتِها یَبدأ فی القُدس المُحتلّة، وخسارة المَعرکة فی تثبیت هَویّتها، بل وسُقوطِ الأُمّتین العَربیّة والإسلامیّة أیضًا، وهذا ما یُدرِکُه أبطال انتفاضة القُدس، وشُهداؤها، وجَرحاها، ولا یُدرکه زُعماء عَرب أعماهم المال والغَطرسة والجَهل والتّخاذل، عن رؤیة هذهِ الحقائق السّاطعة. جمیلٌ أن یُطلِق الرئیس أردوغان “قُنبلته” التّحذیریّة هذه، وعلى هذهِ الدّرجة من الوضوح والشّعور بالمَسؤولیّة، لکن التّحذیر وَحدُه لا یَکفی، إذا لم یکن مُتزامِنًا، ومُترافِقًا، مع خَطواتٍ عملیّةٍ تَردع العَدوّین الإسرائیلی والأمریکی مَعًا، وتُجبرهُما على التّراجع عن عُدوانِهما المُستفز بتَهوید القُدس المُحتلّة، والاعتراف بِها عاصِمةً أبدیّةً لدَولة الاحتلال، نُرید من الرئیس أردوغان أن یکون القُدوة فی هذا المِضمار، وأن یَتماهى مع مِلیار ونِصف المِلیار مُسلم، یَشعرون بالمَهانة والإذلال، ویُطالبون بإغلاق السّفارات الأمریکیّة والإسرائیلیّة، وفَرضِ عُقوباتٍ، ودَعم أبطال الانتفاضة الثّالثة، التی انْطلقت ولن تتوقّف، بإذن الله، حتى یَعود الحَق إلى أصحابِه. *** شَرارة الثّورة انطلقت، و”کُرة دم” التّضحیات تَکبُر وتَکبُر، ورِجالها عاهدوا الله وصَدقوا فی عَهدهم، وعِندما یَتحدّى الشّاب “غیر المُقعد” إبراهیم أبو ثریا الاحتلال مَرّتین، یَفقد فی الأولى ساقیه بصاروخٍ إسرائیلیّ وهو یُقاوم العُدوان على قِطاع غزّة، وفی الثّانیة حیاته وهو یَرفع العَلم الفِلسطینی، تَحدّیًا فی وَجه جُنود الاحتلال، فإنّ هذا یَعکس إرادةً وتَحدٍّ غیر مَوجودة إلا فی أرض الرّباط، وفی زَمنٍ تَخوض الجُیوش والطّائرات الحَربیّة العربیّة الأحدث مَعارِکها ضِد العَرب والمُسلمین الفُقراء المُعدمین الذین لا یَملِکون رَغیف الخُبز لأطفالِهم، ناهیک عن وسائل الدّفاع المَشروع عن أنفسهم، ونَحن نَتحدّث هُنا دون مُوارَبةٍ عن الیَمن. نعم إن إبراهیم أبو ثریا لیس مُقعدًا، فالإعاقة لیست فی السّیقان، وإنّما فی العُقول، وغِیاب قِیمْ العَدالة والشّجاعة والإرادة، ولا نَتردّد فی الجَزم بأنّها، أی الإعاقة، مَوجودة ومُتأصّلة فی الکَثیر، بل الأغلبیّة من الزّعماء العَرب.