عبد الباری عطوان
لم تُفاجِئنا الغارات الصاروخیّة الإسرائیلیّة العُدوانیّة التی استَهدفت بلدة الکسوة ومُحیط مَطار دِمَشق الدولیّ، فنَحن نُدرِک جیّدًا أنّ تل أبیب هِی المُتَضَرِّر الأکبَر مِن تَعافِی سوریة وصُمود جیشها، واستِعادته مُعظَم الأراضِی السوریّة إلى سِیادَة الدَّولة، ولکِن ما فاجَأنا أمْران: الأوّل، فرحَة بعض العرب وشماتتهم المُعلَنة تُجاه هذا العُدوان على عاصِمَة بلد یرفَع لِواء العُروبة، والثّانی، هو تَزامُن هذا العُدوان مع جولة مایک بومبیو، وزیر الخارجیّة الأمریکیّ فی عدّة دُوَل عربیّة، أبرزها دول الخلیج السِّت إلى جانِب الأُردن ومِصر والعِراق، أُضیفَت إلى هذه الجولة فی مُحاولةٍ لإصلاح الضَّرر الذی أحدثَته “زیارة الخِلسَة” للرئیس دونالد ترامب لقاعدة “عین الأسد” فی غرب الأنبار، دون التَّشاور مَع القِیادَة العِراقیّة، ووحَّدت مُعظَم ألوان الطَّیف العِراقیّ ضِد أمریکا “المُحَرِّرَة”.
مِثل الغارة السابقة المُماثِلة فی أواخِر شهر کانون أوّل (دیسمبر) الماضی، لم تَجرؤ الطائرات الإسرائیلیّة المُغیرة على اختِراق الأجواء السوریّة، وأطلَقَت صواریخها مِن الأجواء اللبنانیّة، لأنّها تُدرِک جیّدًا أنّها ستُواجِه رَدًّا قَویًّا أبرز عناوینه إسقاطها، مِثلَما تم إسقاط إحدَى نظیراتها مِن طِراز “إف 16” قبل ما یَقْرُب مِن العام.
***
البَیان العسکریّ السوریّ الذی کشَف عَن هذا العُدوان مُنذ بِدایته بکُل شفافیّة، أکَّد أنّه تم التَّصَدِّی، وإسقاط ستّة مِن ثمانیة صواریخ أطلَقتها الطائرتان المُغیرَتان مِن الأجواء اللبنانیّة، ولم تُصِب أیّ مِن أهدافها، ونحن نُرَجِّح هذه الروایة ونَأخُذهَا بعَین الاعتِبار، لأنّ القُدرات العسکریّة السوریّة ازدادَت قُوَّةً رُغم کُل الغارات الإسرائیلیّة السابقة التی زادَت عَن 220 غارة فی السنوات الأخیرة، مُضافًا إلى ذلک أنّها، أیّ الغارة الإسرائیلیّة، لم تُفلِح مُطلَقًا فی التَّأثیر على صَلابَة الوجود الإیرانیّ، أو ترسانة “حزب الله” مِن الصَّواریخ التی تَضَخَّمَت ووصلت إلى أکثَر مِن 150 ألف صاروخ ازدادَت دقّة، وقُدرة تدمیریّة، هذا إذا لم یَکُن العَدد تزایَد فی ظِل أنباء عَن تسریع وتیرة التَّصنیع الداخلی لهذه الصَّواریخ فی الفَتْرةِ الأخیرة.
جولة الوزیر بومبیو العربیّة الحالیّة تُمَثِّل “إعلان حرب” على إیران وحِمایةً لإسرائیل، وتَشکیل حِلف “النِّاتو العربیّ السنیّ” الذی سیُوَفِّر الغِطاء لأیّ عُدوانٍ مُحتَملٍ، لیسَ على إیران فقط وإنّما على سوریة ولبنان، ولم یتردَّد وزیر الخارجیّة الأمریکیّ فی القَول فی خِطابَه الذی ألقاه فی الجامعة الأمریکیّة فی القاهرة قبل یومین بأنّ بلاده لن تَسمَح بتَحویل سوریة إلى لبنان أُخرَى، و”ستَعمل على احتفاظ إسرائیل بقُدرات عسکریّة تُمَکِّنها مِن الدِّفاع عن نَفسِها فی مُواجَهة تهدید تَرسانَة حزب الله مِن الصَّواریخ”.
أربَع سنوات مِن الحَرب ضِد حرکة “أنصار الله” الحوثیّة فی الیمن لم تَنجَح فی القَضاء علیها، أو حتّى تقلیص قُدراتها القتالیّة، رُغم ضخامَة القُوّة العَسکریّة ومِئات ومِلیارات الدُّولارات التی أُنفِقَت فی هذه الحَرب، وفاجأتنا هذه الحَرکة، والکثیرین غیرنا، قَبل بِضْعَة أیّام فی قَصف منصّة احتِفال رئیسیّة بعَرضٍ عَسکریٍّ فی قاعدة “العند” فی لحج التی تُعتَبر الأکثَر تَحصینًا فی المِنطَقة بأسْرِها، وعَبر طائرة مُسیَّرة (درون)، طالما سَخِر مِنها وقُدراتها بعض المُحلِّیین العَسکریّین والسِّیاسیّین، وبالتَّالی لا نَعتقِد أنّ هذه الغارات الصاروخیّة الإسرائیلیّة ستُؤثِّر على سوریة وقُدراتها العَسکریّة، أو الوجود الإیرانیّ فیها، بَل ستُعطِی نتائج عکسیّةً تَمامًا، حیثُ ستُؤدِّی إلى التِفاف مِئات المَلایین مِن العَرب حولها، باعتِبارها مصدر التَّهدید الأهَم والأکبَر والوَحید فی المِنطَقة للمَشروع الاستِیطانیّ العُدوانیّ الإسرائیلیّ.
الانسِحاب الأمریکیّ مِن سوریة الذی بَدَأ فِعْلیًّا الجمعة، یُؤکِّد هزیمَة المَشروع الأمریکیّ فی المِنطَقة برُمّتها، فهو یتوازَى مع انسِحابٍ وَشیکٍ مِن أفغانستان، وبَعدها العِراق، ولا نَکْشِف سِرًّا عِندما نقول أنّ القِیادة العراقیّة التی التَقاها الوزیر بومبیو أثناء زیارته الخاطِفَة، وغیر المُعلَنة لبغداد قبل یَومین أبلغته صَراحةً رفضها استِخدام أیّ قواعِد عسکریّة فی بَلدها لقَصفِ إیران أو سوریة، وطالَبته بسَحبِ القُوّات الأمریکیّة فی أسرعِ وَقْتٍ مُمْکِنٍ، (تِعدادُها 5500 جُندی).
بنیامین نِتنیاهو، رئیس الوزراء ووزیر الدِّفاع الإسرائیلیّ، یُرید أن یظهَر بمظْهَر القَویّ، تَعزیزًا لفُرَص فَوزِه فی الانتِخابات التشریعیّة القادِمَة، ولتَحویل الأنظار عن اتّهامات الفَساد المُوجَّهة له ولزوجته، ولکنّه لن یُفْلِح فی أیّ مِن البَنْدَین، فإسرائیل التی یتَزعَّمها باتَت مُرتَبِکَةً قَلِقَةً، والمُستَوطنون فیها باتُوا یَفتَقِدون إلى الأمن والاطْمِئنان وهُم یَرون أنفسهم مُحاطِین بغَاباتٍ مِن الصَّواریخ مِن کُل الجِهات.
القِیادَة السوریّة تَکْظِم الغَیْظ، وتَمْتَص هذه الضَّرَبات العُدوانیّة الإسرائیلیّة لأنّها لا تُرید الخُروج عَن أولویّاتها وأجِنداتها الاستراتیجیّة فی التَّرکیز على جبْهَتِها الداخلیّة، واستِعادَة جمیع الأراضی السوریّة المُتَبَقِّیة خارِج سِیادَة الدَّولة، وهِی تُدرِک حتْمًا أنّ الحَرب مع دولة الاحتِلال الإسرائیلیّ حَرب طویلة الأمَد وسیَتِم خوضها فی إطارِ استراتیجیّات مُحْکَمَة، ولیسَ مِن خِلال رُدود الفِعل غَیر المَدروسة، مِثْلَما أکَّدَ لنا أحَد المُقَرَّبِین مِنها.
***
لا نَعتقِد أنّ جولة بومبیو التی أکَّد فیها أنّ بلاده قرَّرَت الانتِقال مِن مرحلة احتِواء إیران إلى مُهاجَمتها ستُکَلَّل بالنَّجاح، ونَسْتبعِد أن تُحَقِّق أیّ مِن أغراضِها باستِثْناء حَلْب ما تَبَقَّى مِن مِلیاراتٍ فی خزائِن بعض الدول الخلیجیّة، والشَّیء نفسه نَقوله عَن مؤتمر بولندا المُقْتَرح لبَحث شُؤون الشرق الأوسط، ومُواجَهة إیران الشَّهر المُقبِل، وهو المُؤتَمر الذی یُذکّرنا بمُؤتَمرات “أصدقاء سوریة” التی شارَک فیها أکثَر 65 دولة بزَعامَة أمریکا فی عِدَّة عَواصِم غَربیّة وعَربیّة.
فإذا کانَت منظومة “أصدقاء سوریة” فَشِلَت فی تغییر النظام فی سوریة، فهل ستَنْجَح “منْظُومَة بولندا” الجَدیدة فی تغییر النِّظام فی إیران؟
لدَینا شُکوکٌ کَثیرةٌ جِدًّا نَحنُ الذین لم نَتَوقَّع مُطْلَقًا ومُنْذُ الیَوم الأوّل نَجاح منظومة “أصدقاء سوریة”.. والأیّام بَیْنَنَا.