التطبیع وسیاسة الخطوة خطوة
قفزات تطبیع الدول العربیة من واحدة إلى أخرى لیست مستغربة ولم تأت من فراغ، خاصة وأن بعضها یتجاوز البعض الآخر بآلاف الکیلومترات. اذ بات یقوم بها کل من الأمیرکی والعدو الصهیونی بحسب ما تیسر مستغلین أطماع حکام الدول العربیة السیاسیة والاقتصادیة.
فالتراجع الحاد فی اقتصادیات العالم والعالم العربی بعد جائحة کورونا وضعت الدول العربیة ذات الاقتصاد الریعی أمام صعوبات اقتصادیة واجتماعیة، ولیس بمقدورها مواجهتها، لأنها مرتبطة باقتصاد الشرکات الأمیرکیة بشکل مباشر. وما زاد الأمر سوءًا، أن بعض دول الخلیج العربیة، والتی هرولت نحو التطبیع، دخلت فی مواجهات عسکریة مع بعضها البعض خلال مأساة الربیع العربی، والتی صور لها، بحسب الادعاءات الأمیرکیة، أنها خلال بضع سنوات ستکون قادرة على إدارة شؤون الدول المتساقطة السیاسیة والاقتصادیة. ولکن ما حدث هو العکس، وبالتالی فقد وقعت فی الفخ.
فخ التطبیع لیس ولیدة مخطط فجائی خرج به الرئیس الأمیرکی وصهره جارید کوشنیر من القمقم، بل هو نتیجة لمخطط وضع سیاسته عراب السیاسات الخارجیة الأمیرکیة هنری کیسنجر فی العام 1973، وإبان حرب تشرین التحریریة. واذا کان البعض لا یفهم مدى تأثیر الخیانة التی قام بها محمد أنور السادات عندما أوقف الحرب على الجبهة المصریة بعد عبور خط بارلیف، فعلیه الیوم أن یعید قراءة تأثیرها المدمر على المنطقة العربیة.
شغل کیسنجر، والذی عرف بلقب الثعلب، فی العام 1973 منصب مستشار الرئیس الأمیرکی ریتشارد نیکسون للأمن القومی، ومن ثم انتقل لیصبح وزیر الخارجیة الأمیرکیة، فی عهد الرئیسین نیکسون وجیرالد فورد حتى العام 1977. فهو من ألمع مهندسی السیاسة الخارجیة الأمیرکیة فی عهد الرئیسین السابقین، ومستشار السیاسة الخارجیة فی إدارتی کینیدی وجونسون الدیمقراطیین.
لم یتوقف عمل الثعلب الأمیرکی خلال الإدارات الرئاسیة المتلاحقة. ومن المعروف أنه کان من أهم مستشاری الرئیس الحالی دونالد ترامب للسیاسات الخارجیة، وخاصة بما یتعلق منها بالعلاقات مع الصین وکوریا الشمالیة وفی الشرق الوسط، إذ أوفده ترامب إلى الصین خلال السنة الأول من حکمه. نقول هذا لتوضیح أهمیة الرجل التی لم تتغیر خلال ستین عاماً من تعاقب الحکومات الأمیرکیة، والتی توضح لنا من هی القیادة الخفیة التی تدیر السیاسات الخارجیة الأمیرکیة، ولیس من المعلوم إذا ما کان سیستمر بتقدیم خططه واقتراحاته خلال فترة حکم المرشح جون بایدن.
فی الأسبوع الثانی لحرب تشرین التحریریة فی العام 1973، بانت خسائر "اسرائیل" الکبیرة فی الأرواح والعتاد، فابتدأت فی الأسبوع الثالث من حرب تشرین 1973 الرحلات المکوکیة لکیسنجر مستشار الأمن القومی فی البیت الأبیض آنذاک، والذی جاء بخطة مفادها "القضم خطوة خطوة". تزامنت الرحلات مع تدخل الجیش الأمیرکی ومن ورائه الحلف الأطلسی بطائراته وطیاریه لدعم "اسرائیل". ابتدأ کیسنجر بشراء الوقت من خلال المباحثات مع السادات منفرداً وتم من خلال اللقاء تحیید الاتحاد السوفییتی، وأطلقت الوعود بإعادة صحراء سیناء إلى مصر فی حال أوقفت الحرب عن طریق محادثات السلام، وإلى البدء بعلاقات أمیرکیة - مصریة وتعاون ما بین البلدین فی جمیع المجالات.
کانت خطة القضم خطوة خطوة تعمل على تفکیک ارتباط التعاون العربی، الذی اتضح من خلال إرسال الرجال والعتاد والمال من جمیع الدول العربیة للقتال إلى جانب الجیشین المصری والسوری. وقد نشر موقع "العهد" تفاصیل عن هذا التعاون، فبدأ بزیاراته للدول العربیة کل منها على حدة، خاصة فی الأردن والسعودیة والمغرب العربی، عارضاً المشاریع التی ستدعمها الولایات المتحدة من خلال الشرکات الأمیرکیة التی ستقوم بالاستثمارات بها.
لکن هذه الشرکات لم تقم ببناء سدود أو إنشاء مصانع، انما کانت بمعظمها، شرکات صناعات ملابس من الدرجة الثانیة مثل "بینیتون" وغیرها أو شرکات افتتحت المطاعم السریعة مثل "ماکدونالز" و"کنتاکی" و"بیتزا هت"... والتی تقوم هی الأخرى على مبدأ النظام الریعی، اذ تقوم باستئجار الأماکن وإدارتها وإرسال منتجاتها من الخارج، بینما یتحول أهل البلد إلى مستهلکین فقط. وهذا ما یعاکس تماماً سیاسة الاتحاد السوفییتی آنذاک، والتی کانت تقوم على مبدأ دعم الشعوب فی بلادهم. ولکن السیاسة الدبلوماسیة الهجومیة التی اعتمدها کیسنجر آنذاک قامت بتحیید الاتحاد السوفییتی فی مصر، وحولت انتصاره فی دعم الجیشین السوری والمصری إلى هزیمة وأخرجته نهائیاً من مصر.
خلال حرب تشرین قامت الدول الخلیجیة بقطع ضخ البترول إلى الغرب، أنذر ذلک بما یقدر علیه التحالف العربی. لقد کانت تشرین بمثابة ناقوس خطر دق، فسارع الأمیرکی للاستجابة وابتدأ العمل على فک الارتباط فی المسارات العربیة وربط اقتصاد کل منها منفردة به. وابتدأت الشرکات الأمیرکیة بالتوافد على دول الخلیج العربی وتم توقیع المعاهدات مع مئات الشرکات الأمیرکیة حتى العام 1976، وربط 90% من اقتصادها بالشرکات الاحتکاریة الأمیرکیة مباشرة. وبذا تمت السیطرة على الاقتصاد الخلیجی، بعد أن ربط أمنه وصناعة البترول فیه بشرکات أمیرکیة وبالأمن الأمیرکی بعد لقاء الرئیس الأمیرکی فرانکلین روزفلت وعبد العزیز آل سعود وتوقیع اتفاق کوینسی فی العام 1945.
لکن کان هناک عاملان قویان ومؤثران فی تلک المرحلة أبطآ التوجه والاستمرار بهذه السیاسة بعد توقیع معاهدة کامب دیفید. الأول، له علاقة بالعلاقات الدولیة الإسرائیلیة فی الإقلیم، والتی تجلت بالعلاقة الممیزة مع کلّ من إیران الشاه وترکیا. فکلتا الدولتین قبل الثورة الإسلامیة فی إیران، اعترفتا بالدولة المارقة وفتحت سفارة لـ"إسرائیل" فی کلّ منهما، او کانت علاقة الدولتین مع "اسرائیل" بمثابة داعم اقتصادی ومتنفس قوی لها.
والعامل الثانی، والذی یحاول الکثیرون تجاوزه، وجود الرئیس حافظ الأسد على رأس الحکم فی سوریا. لم یستطع أی من القادة والرؤساء العرب تجاوز الرجل وفتح علاقات مع "اسرائیل". لقد کان المعروف عن الرئیس الأسد أنه مفسد السلام مع "اسرائیل"، وهذا ما قالته عنه مجلة النیویورکر، فهو لا یخاف وقد یذهب إلى حد استخدام العنف لتحقیق مواقفه، وهذا ما کان یخشاه حکام الخلیج، الذین وصفهم الرئیس بشار الأسد "باشباه الرجال". اذ إن غیاب الرئیس حافظ الأسد عن مؤتمر الرباط 1981، وأیضاً بحسب نیویورکر، عرقل مبادرة الملک فهد ولم یستطع تقدیم مشروعه ذی الثمان نقاط والمدعوم من واشنطن، للاعتراف بحق الکیان الإسرائیلی "بالعیش بسلام". والأمر ذاته تکرر مع إلغاء اتفاق 17 أیار المذل ما بین کیان العدو ولبنان إبان الاحتلال الإسرائیلی لبیروت.
لا یمکننا أن نتغاضى عن الفراغ الذی ترکه غیاب قوة کبرى کالاتحاد السوفییتی ورحیل رجل صلب کالرئیس حافظ الأسد فی تعطیل المشاریع المنفردة لأمریکا فی المنطقة. وبالتالی فإن ذهاب الدول الخلیجیة منفردة الواحدة تلو الأخرى نحو توقیع اتفاقیات السلام والتطبیع مع "اسرائیل" لیس مستغرباً، خاصة فی ظل تدهور اقتصادی فی "إسرائیل"، فالحاجة متبادلة من أجل البدء بعلاقات استثماریة متبادلة، زد علیها حاجة حکام الخلیج للحفاظ على عروشهم المتضعضعة بسبب سیاساتهم الاقتصادیة التی أنهکت بلاد النفط وسوء علاقاتهم مع المحیط العربی بعد تدخلاتهم العسکریة الإرهابیة.
سیاسة "الخطوة خطوة"، ابتدأت مع مصر فی کامب دیفید، والأردن فی وادی عربة، ومع السلطة الفلسطینیة فی أوسلو، ولم یبق ما یعرقلها، سوى لبنان الغارق بأزماته الاقتصادیة والحکومیة، وسوریا المنشغلة بوضعها الاقتصادی الصعب وبمحاربة الإرهاب والدفاع عن نفسها ضد التقسیم ومن أجل تحریر أرضها من الاحتلالات الإسرائیلیة والترکیة والأمیرکیة. وضع قاس، وإن لم یعد لبنان عن قطیعته مع سوریا فالأمور ستسیر نحو الأسوأ. وفی هذا قراءة جدیدة لأهداف اغتیال الرئیس رفیق الحریری، حیث ابتدأ معها الدفع نحو فصل المسار اللبنانی والسوری، والذی تعمق عبر السیاسات الأمیرکیة- اللبنانیة منذ العام 2011، والتی تدفع الیوم نحو فصل المسارات فی الداخل اللبنانی من خلال تلاحق فرض العقوبات على سیاسیین لبنانیین.
وهنا یجب أن نتذکر قول کیسنجر حول أهمیة الإسراع فی توقیع معاهدات السلام العربیة والأمة نائمة، حیث یقول لمناحیم بیغین: "إنی أسلّمک أمة نائمة فالأمة الإسلامیة تنام ولکن لا تموت فاستثمر ما استطعت نومها فإن استیقظت أعادت بسنوات ما سلب منها بقرون". وبالتالی فإنه على "إسرائیل" الاستفادة من هذا النوم. والأمر الثانی الذی یدفع لإعادة قراءة کل ما کتبه کیسنجر حول طرق فرض السیطرة الأمیرکیة من خلال سیاسة الحصار والتجویع والدفع نحو غلاء الأسعار، وهو جزء من السیاسة الأمیرکیة المتبعة الیوم والتی تقوم، بحسب قول الثعلب، على أن: "الشعوب تحکم بالخبز، ولیس بالسلاح".