جولة بومبیو واحتمالاتها المختلفة
بعد فضیحة دونالد ترامب المتمثلة فی سلوکه تجاه خسارة الانتخابات، واساءته لصنم الدیمقراطیة الامریکیة الذی یقدسه الکثیرون وتستخدمه امریکا فی ترویج بضاعتها السیاسیة بالعالم، تأتی جولة وزیر الخارجیة الامیرکی مایک بومبیو الأخیرة والتی یثار حولها جدل کبیر وتکهنات متباینة.
فبینما یراها البعض بمثابة جولة الوداع لحفظ ماء وجه الادارة الخاسرة وتثبیت خیاراتها واستعراض انجازاتها قبل الوداع، یرى البعض الآخر أنها إعداد لعدوان وفوضى وتعقید لملفات الرئیس الجدید قبل تسلمه، کنوع من النکایة والانتقام.
وکلا الاحتمالین له وجاهته ولا یمکن تسفیه أی منهما، حیث الاحتمال الأول، یتسق مع أسلوب ترامب الاستعراضی وانجازاته الوهمیة القائمة على تسخیر أدواته وأتباعه لأقصى مدى، دون إحداث أی فتح استراتیجی أمام خصومه، فیستعیض عن فشله فی الضغط على المقاومة، بالضغط على أتباعه وذیوله لاستنفاذ أقصى درجات التفریط.
ویتسق الاحتمال الثانی مع عدوانیة ادارة ترامب وعدم اهتمامه بالقانون الدولی ولا الأعراف، بما فیها الداخلیة فی أمریکا، ولا یستبعد أن تکون الخیارات الانتحاریة على أجندته الملیئة بالحماقة والتهور.
بینما هناک احتمال ثالث لم یجد قدرًا کافیًا من الاهتمام، وهو ما نود هنا القاء الضوء علیه باعتباره احتمالًا موجودًا وله وجاهته. وهذا الاحتمال یتعلق بالاستعداد للانتخابات القادمة فی العام 2024، وهو احتمال یجمع وجاهة الاحتمالین السابقین، حیث یسوق لادارة ترامب التی تضع بذور فشل وتعثر ادارة بایدن الاولى فی الأسابیع الباقیة قبل تسلم المنصب، وبین اتخاذ اجراءات عدوانیة ضد الخصوم یصعب التراجع عنها الى حین العودة للرئاسة، وفقًا لتصور ترامب.
وهنا یمکننا باختصار عرض الأفکار التالیة:
1- تخشى ادارة ترامب من تحول أولویات بایدن فی الصراع، لتصبح روسیا هی العدو الأول على حساب الصین، وبالتالی یحدث بعض التساهل مع الصین سواء فی الحرب التجاریة، أو فی التغلغل لمناطق النفوذ الأمریکیة وعلى رأسها الکیان الاسرائیلی ودول الخلیج، وهو ما یقطع الطریق على عودة ادارة ترامب مرة أخرى عبر خیاراتها وعقیدتها السیاسیة.
وقد خلص تقریر لمعهد بروکنجز أعده ناتان ساکس وکیفن Huggard الى أن "صناع السیاسة والخبراء الأمریکیین من مختلف الأطیاف السیاسیة یتوقعون أن الحلفاء فی جمیع أنحاء العالم قد یضطرون إلى اتخاذ خیارات صارخة وصعبة فی المستقبل بین القوتین. لذلک یجب على "إسرائیل" أن تلعب عملیة موازنة صعبة: مواصلة العمل لتوسیع تعاونها الدولی، بما فی ذلک مع الصین، مع الاعتراف بجدیة مخاوف الولایات المتحدة والقیود الحقیقیة والمکلفة التی تفرضها هذه المخاوف على التعاون الإسرائیلی الصینی. بالنسبة لـ "إسرائیل"، فإن الحد الأدنى فی علاقاتها مع الصین واضح: لا یمکن لبکین أن تحل محل واشنطن."
2- تسعى ادارة ترامب الى الحفاظ على بؤر التوتر مشتعلة دون حسم، لاشغال ادارة بایدن من جهة، ولاشغال خصوم ترامب فی محیطهم الحیوی وقطع الطریق على تخفیف الحصار عن الخصوم، وهو ما یفسر قرارات سحب بعض القوات الامریکیة من فغانستان دون تسویات، وهو ما یسمح باشتعال الساحة فی محیط ایران وروسیا الحیوى وکذلک طریق الحریر الصینی.
ولعل مناورة سحب بعض القوات من العراق تأتی کمقدمة لصحوة داعشیة جدیدة لافساد التواصل العراقی السوری الایرانی.
وفی الأسبوع الماضی، نشر ستة سفراء سابقین للولایات المتحدة رسالة مفتوحة على موقع المجلس الأطلسی على الإنترنت یحذرون فیها من أن الانسحاب الأمریکی فی أفغانستان من شأنه أن یقوض مفاوضات السلام الجاریة مع طالبان بینما یعرض للخطر الأفغان الذین عملوا جنبًا إلى جنب مع الجیش والحکومة الأمریکیة.
ویشیر جیمس، أحد مؤلفی الرسالة وکبیر الدبلوماسیین الأمریکیین فی البلاد من 2012-2014، إلى أن مستویات القوات الأمریکیة هناک بالفعل عند أدنى مستویاتها منذ الأیام الأولى للصراع، وأن وجودهم "یدعم قوات الأمن الأفغانیة، ووجود شرکائنا فی التحالف، والآفاق الصعبة للسلام، ومهمة مکافحة الإرهاب التی لا تزال ضروریة" ولا یرى أی سبب منطقی لمزید من الانسحابات فی الأسابیع الأخیرة من إدارة ترامب.
لکن فی العراق، تقول کیرستن فونتروز، المسؤولة السابقة للأمن القومی فی إدارة ترامب، إن الولایات المتحدة ستحتفظ بالقدرة الکافیة لمواصلة الجوانب الرئیسیة لمهمتها، بما فی ذلک عملیات مکافحة الإرهاب إلى جانب قوات النخبة العراقیة. وترى أن الانسحاب جزء من خطة أمریکیة یدعمها المشرعون العراقیون لتسلیم المزید من المسؤولیة إلى "الناتو".
وهو ما یتسق مع أفکار ترامب بتحمیل حلفائه مسؤولیتهم ومشارکتهم فی الکلفة، وهو بمثابة اسفین فی علاقة بایدن بالناتو، حیث هناک بذرة خلاف حول تکالیف التواجد المبنیة على توریط امریکا للحلف.
3- زیارة بومبیو لجورجیا هی الاخرى لافتة، حیث لا تخلو من دلالات تتصل بملف الطاقة، فمن المقرر أن یتدفق الغاز الآذری لأوروبا بنهایة عام 2020 أو بدایة عام 2021 عبر "ممر الغاز الجنوبی"، الذی سینقل 8 ملیارات متر مکعب إلى إیطالیا، وملیار متر مکعب لکل من الیونان وبلغاریا، إلى جانب 6 ملیارات متر مکعب إلى ترکیا سنویاً.
ورغم أن الإمدادات الآذریة للغاز لن تغطی سوى جانب ضئیل من احتیاجات أوروبا، ویمکن تعویضها عبر شحنات الغاز المسال من مُورِّدین آخرین، غیر أنها قد تلعب دورًا رمزیًا فی کسر هیمنة الغاز الروسی بالأسواق الأوروبیة.
ولدى أذربیجان خط أنابیب رئیسی لتصدیر الغاز، وهو خط أنابیب جنوب القوقاز بطول 693 کیلومتراً، والذی ینقل الغاز من حقل "شاه دنیز" عبر جورجیا إلى ترکیا، فضلاً عن خط أنابیب النفط "باکو – سوبسا" البالغة طاقته 150 ألف برمیل یومیاً إلى ساحل البحر الأسود فی جورجیا.
وهنا زیارة بومبیو لجورجیا وفرنسا وترکیا، لها علاقة بالصراع فی قرة باغ، حیث تعد فرنسا عضوا بمجموعة مینسک المتخصصة بتسویة النزاع، وترکیا طرف رئیسی فی تصعید الصراع، وهناک حاجة امریکیة للحفاظ على تدفقات الطاقة بما یؤثر على الحصة الروسیة وایضا دعم جورجیا فی مواجهة النفوذ الروسی بالقوقاز، وهی لا تشکل نقطة خلافیة من حیث المبدأ بین بایدن وترامب، ولکن تختلف الوسائل، الا أن محل الاسفین هنا سیکون ترکیا والتی تعمق ادارة ترامب من دورها، فی حین توعد بایدن بحصارها!
یسعى ترامب الى توتیر الأجواء الأمریکیة وتحویل فترة بایدن الى جحیم وفشل، ویستعد ترامب لجولة أخرى من الآن، بل وربما یستعد بومبیو لترشیح نفسه، کما وردت تسریبات من کوالیس مراکز الأبحاث الامریکیة!