إدلب والمشهد السوري في مرحلة الوقت الضائع
منذ فترة وجيزة، استهل الحديث عن اتفاق روسي- تركي يبدأ فيه تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق آستانة، خلال شهر كانون الأولديسمبر الحالي. تأجيل تنفيذ اتفاق آستانة الذي بدأت محادثاته في 4 أيار مايو 2017 سببه التقاعس والمماطلة التركية بأمر أميركي والطمع بالوصول إلى نتائج ترضي غرور أردوغان بإعادة تاريخ العثمانية. وأهم بنود الاتفاق التي كان يجب تنفيذها منذ العام 2018، ما هو مرتبط باوتوستراد حلب - اللاذقية، M4، وما حوله. والمقصود هنا مدينة أريحا، وقرى وبلدات جبل الزاوية، بعد أن تتكفل تركيا باقناع المسلحين فيها بالاستسلام!
يفترض في المرحلة الأولى من آلية تطبيق اتفاق آستانه، بقاء مدن عفرين وإعزاز وجرابلس تحت سيطرة روسية - تركية مشتركة. واليوم، يبدو أن هناك إصرارا روسيا على انسحاب المعارضة باتجاه شريط حدودي ضيق لا يتجاوز مدينة سرمدا الحدودية. لكن تركيا تريد أن يمتد هذا الشريط إلى قرية حزانو، أي ما بعد قريتي الفوعة وكفريا، غير أنّ كلّاً من الحكومة السورية والمفاوض الروسي لم يقبلا بذلك. فتركيا لم تكلَّ بعد من محاولة وضع اليد على شريط حدودي بعمق 15- 20 كم في داخل الأراضي السورية.
إذًا عاد اتفاق آستانة في الآونة الأخيرة ليصبح قائد المرحلة القادمة في شمال سوريا وفي منطقة ادلب حول الـM4. ويبدو أن الاتفاق الذي كان سيدخل حيز التنفيذ مع بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر، ويقضي بتسليم أريحا وقرى وبلدات أخرى في جبل الزاوية، ومنها بالتأكيد مدينة جسر الشغور الإستراتيجية والتي تشرف بخط ناري مباشر على طريق M4، سيدخل مرحلة التأجيل.
بموجب الاتفاق ستدخل مؤسسات الدولة السورية إلى مدن عفرين وإعزاز وجرابلس، وستبدأ فيها سلسلة من الاتفاقيات والمصالحات مع الدولة، والتي تشبه تلك التي حدثت في درعا، ولكن برعاية روسية - تركية. غير أن تركيا طلبت فتح مكتب للائتلاف السوري المعارض في المدن الثلاث، وهذا ما لم يقبل الروسي بوجوده إلا في مدينة إعزاز. ورفض الطلب بفتح أي مكتب لحكومة مؤقتة، بأي شكل من أشكالها. وبالتأكيد سيتم وضع معبري باب الهوى والسلامة الحدوديين تحت إدارة الدولة السورية المباشرة، ومعنى ذلك أن تعود الدولة السورية للسيطرة على المعابر مع تركيا.
هذا ما كان يفترض أن تسير الأمور باتجاهه بعد زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى سوريا في نهاية شهر آذار/ مارس، والتي صرح خلالها أنّ الحرب على الإرهاب في سوريا قد انتهت، وذلك بعد انتهاء العمليات في ريف إدلب الشرقي والتي توجت بتحرير مدينة سراقب من الجماعات المسلحة. وكان من المفترض أن تلتزم تركيا بعد هذه المعركة بستة أشهر بتنفيذ بتطبيق جميع ما جاء أعلاه، ومن ثم تبدأ في شهر أيلول/ سبتمبر مرحلة جديدة من الانسحابات العسكرية، إلا أنّها أخلت بالاتفاق، وسمحت للجماعات الإرهابية بقصف الدوريات الروسية.
أدى القصف المدفعي إلى توقف الدوريات الروسية - التركية المشتركة منذ حزيران/ يونيو الماضي. بعدها تكرر القصف لمواقع للجيش السوري، والذي أذن بحتمية الحل العسكري لتحرير أريحا وجسر الشغور. فبدأ قصف الطيران الروسي والسوري المكثف خلال الشهرين الماضيين لمواقع الإرهابيين في محافظة إدلب، والذي أدى إلى انسحابات تركية ولم يكن آخرها انسحابات الجيش التركي من الأراضي السورية في "النقطة 100"، وإخلاء بلدة دارة عزة في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر. وترافق الإنسحاب مع السرقات التي قام بها الجيش التركي، حيث لم يوفر فيها حتى شجر الزيتون المعمّر في مناطق إدلب وعفرين.
لم يأت اتفاق إدلب الأخير منعزلاً عن المعركة التي دارت بين أذربيجان وأرمينيا خلال الصراع على إقليم ناغورني قره باخ في آخر شهر أيلول/سبتمبر الماضي، والذي كان من المفترض أن تبدأ خلاله معركة تحرير طريق الـ M4 بشكل نهائي. إلا أن الاقليم دخل في معركة جديدة حاول التركي خلالها استجرار الجماعات الإرهابية من سوريا إلى أذربيجان بالقرب من الحدود الروسية والإيرانية، كان من أهم أسباب القصف الذي شهدته إدلب في الشهرين الماضيين، والتي أسفرت عن قصف معسكر كانت تركيا تهيئ فيه لتخريج إرهابيين من فتح الشام ومن ثم نقلهم للقتال في إقليم قره باخ، لمساندة القوات الأذربيجانية ضد الهجوم الأرمني.
وبحسب ما أفاد مصدر لـ"العهد" من داخل إدلب، فإن القصف كان الأكبر وقتل فيه ما يقارب 200 إرهابي، ما عدا الجرحى. ويقع المعسكر في جبل الدويله التابعة لكفرتخاريم في منطقه ما بين سلقين وكفرتخاريم. وتركز قصف الطيران الروسي والسوري على مركز في غربي مدينة ادلب حيث توجد معسكرات تدريب للارهابيين. طالت الضربات ريف جسر الشغور وجاءت رداً على قصف المسلحين لقرى الغاب وأريحا ومواقع للجيش السوري.
إذًا اتفاقية وقف اطلاق النار بين أذربيجان وأرمنيا، لم تأت من فراغ. اذ منعت روسيا عبرها توجه الإرهابيين إلى أذربيجان، واستطاعت بذلك الضغط على كل من أذربيجان، المدعومة من تركيا، وأرمينية من أجل وقف الهجوم. في الحقيقة لقد استطاع الروسي إدارة المحادثات بذكاء مع جميع الأطراف، ونشر القوات الروسية لحفظ السلام في قره باخ، وأمن معابر الإقليم مع كل من أذربيجان وأرمينيا.
بعد تكشف المشهد السوري في إدلب، والذي استدل منه على أن الخطوات العملية في طريقها لتأخذ حيز التنفيذ، شهدت المنطقة في شرقي الفرات تغييراً في الأحداث وإعادة تموضع وسرقات للجيش الأميركي في حقول البترول السورية. ترافق ذلك مع سلسلة من الأحداث الهامة في المنطقة، بدءًا من زيارة مايك بومبيو في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر للمستوطنات "الإسرائيلية" في الجولان المحتل، وقدوم طائرة الـ B52 الأميركية إلى المنطقة وتحركات أميركية في الخليج ومنطقة شرق الفرات السورية، وصولا الى اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده يوم السبت الماضي.
جميع هذه التحركات والاستفزازات تأتي في الوقت الضائع، والذي تنتهي مدته في موعد تسلم بايدن الحكم وانتقاله إلى البيت الأبيض في كانون الثاني من العام المقبل. وتهدف إلى تعقيد التقدم في أية اتفاقيات ما بين أمريكا وإيران. وما يثير الريبة هو الخبر الذي نشره موقع "العهد" منذ أسبوع، حول نقل الخوذ البيضاء اسطوانات تحوي غاز الكلور "السارين" من بلدة سرمدا على الحدود الشمالية في محافظة ادلب، إلى بلدتين في جنوبها. وبالتالي فمن الممكن أن نشهد تمثيلية أخرى للخوذ البيضاء تستجر أهدافا مشبوهة.
بناء على ما سبق، يشير مصدر خاص الى أن ما اتفق عليه بين روسيا وتركيا حول إدلب قد يتم تعطيله بتدخل اميركي حتى منتصف كانون الثاني/ يناير من العام المقبل "لأن الولايات المتحدة تريد أن تكون شريكاً في الإنجازات القادمة في سوريا". وهي مواقف في السياسة يجب أن يقبض الجميع أثمانها.