"تَعرف الکَذبة من کُبرها"

إذا کانت المُخابرات الإسرائیلیّة رَصدت رحلة السیّد نصر الله السریّة إلى دِمشق.. فلماذا لم تُقدم على اغتیاله أُسوةً بقادة المُقاومة الآخرین؟ ولماذا ارتدى ملابس رجال الأعمال مثلاً؟ وهل حَلق لِحیته ووضع عَمامته جانبًا؟عبد الباری عطوان هُناک مَثلٌ عربیٌّ یَقول “تَعرف الکَذبة من کُبرها”، ولدینا قناعةٌ راسخةٌ بأنّ هذا المَثل یَنطبق على التّسریبات التی نَشرتها صحیفة “یدیعوت أحرونوت” قبل یَومین، وقالت فیها أن أجهزة الاستخبارات الإسرائیلیّة رَصدت زیارة السیّد حسن نصر الله، أمین عام “حزب الله” إلى سوریة مُتنکّرًا فی زی “رجل أعمال” لمُقابلة الرئیس بشار الأسد. الصّحیفة ادّعت أن لإسرائیل عُیونًا تَعمل لصالحها، وتَقوم بتتبّع حَرکة السیّد نصر الله، وقامت بالفِعل بالإبلاغ عن زیارته لسوریة، ولکنّها لم تَستهدفه، وأرادت أن تُوصل إلیه رسالةً بأنّ رِحلاته السریّة إلى دِمشق وطهران لا تَخفى علیها. ما شاء الله على هذا التعفّف عن القَتل، والمَشاعر الإنسانیّة لدى الاستخبارات الإسرائیلیّة وقِیادتها التی تُتابع تحرّکات أخطر رجلٍ یُهدّدها، ولا تُقدم على اغتیاله، مِثلما اغتالت سَلفه السیّد عبّاس الموسوی عام 1992 بقَصف سیّارته فی بلدةِ جبشیت فی جنوب لبنان، ولائحة طویلة من قیادات الحزب المیدانیّة، مثل الشّهداء عماد مغنیة، قائد الجناح العَسکری للحزب، وسمیر القنطار، عمید الأسرى العرب، وجهاد مغنیة، والقائمة تَطول. ولا نَنسى فی هذهِ العُجالة شُهداء الثورة الفِلسطینیّة مثل الرئیس یاسر عرفات، الذی حُوصر وسُمّم فی مَکتبه، أو خلیل الوزیر (أبو جهاد)، أو أبو علی إیاد، أو ودیع حداد، وغسان کنفانی، وأبو علی مصطفى، وشُهداء الفردان الثلاثة، والشیخ أحمد یاسین، مُؤسّس حرکة “حماس″ وأحمد الجعبری، ویحیى عیاش، وجمال بو سمهدانة، والقائمة تَطول أیضًا، واعذرونا إذا لم نَذکر الجمیع لضیق المساحة. *** التّقدیر الاستراتیجی الإسرائیلی السّنوی الذی تَضعه الأجهزة الأمنیّة والعُقول الاستراتیجیّة، یُؤکّد مُجدّدًا أن حزب الله یَحتل قمّة سُلّم أعداء إسرائیل، ویَلیه فی المَرتبة الثانیة إیران، ثم حرکة المُقاومة الإسلامیّة “حماس″ فی المرتبة الثالثة، ولم یَصل الحِزب إلى هذهِ المَکانة إلا بسبب قیادته وشُهدائه وثُبوته على المَبدأ. خُطورة “حِزب الله” بالنّسبة إلى إسرائیل لا تَکمن فی صواریخه وقذائفه، التی یَزید تِعدادها عن 150 ألف صاروخًا من مُختلف الأحجام والأبعاد، وإنّما أیضًا من مُقاتلیه الأشداء، ورباطة جأش قِیادته التی لا یُمکن أن تتخلّى عن هَدفها الاستراتیجی فی مُقاومة الاحتلال الإسرائیلی. اللواء أمیر ایشل، قائد سلاح الجو الإسرائیلی السّابق، اعترف فی حدیث جَرى نَشره قبل أیّام فی صحیفة “هآرتس″ أن سلاح الجو الإسرائیلی نفّذ فی السنوات الأخیرة نحو مِئة غارّة جویّة داخل الأراضی السوریة، دمّر خلالها قوافل صواریخ بَعث بها الإیرانیون إلى حزب الله عبر مطار دمشق الدّولی، فإذا کانت إسرائیل تَرصد هذهِ الصّواریخ وتُدمّرها، فلماذا لا تُرسل طائراتها فی غارة تستمر دقائق مَعدودة لاغتیال العقلیّة الجبّارة التی هَزمتها، أی إسرائیل، مرّتین، الأولى عندما أذلّت جَیشها وأجبرته على الانسحاب من طرفٍ واحدٍ من جنوب لبنان عام 2000، ثم دمّرت أُسطورة هذا الجیش للمرّة الثانیة فی حرب تموز عام 2006، وأطلقت أکثر من 5000 صاروخ لتَضرب العُمق الفِلسطینی المُحتل. *** اغتیال قیادة تُرسّخ نظریة “نصر یَلد آخر”، أهم بکثیر من تدمیر قافلة صواریخ، لأن هذهِ القیادة هی التی تَملک الإرادة لاتخاذ قرارات الحرب أولاً، ثم إدارتها ببراعةٍ ثانیًا، وتُقدّم النّموذج فی الصّمود والشّهادة للمُقاتلین، ولا تتردّد فی تقدیم أبنائها لیکونوا فی الصّفوف الأولى جنبًا إلى جنب مع أبناء الآخرین ثالثًا. ما یَجعلنا لا نُشکّک فقط فی الروایة الإسرائیلیّة، بل ونُعرّی زَیفها فی الوقت نفسه، أن من أعلن عن هذهِ الزیارة لسوریة ولقاء الرئیس الأسد هو السید نصر الله نفسه فی أحدث خِطاباته، وإذا کانت الاستخبارات الإسرائیلیّة تَعرف بها، وتفاصیلها، ونوعیّة الملابس التی ارتداها الرّجل أثناء تخفّیه عن عُیون العَسس التی تُراقبه، فلماذا لم تُعلن فَور حُدوثها، أو حتّى بعد عَودته، وتُقدّم لنا الصّور وهی التی تتباهى بتصویر النّمل على الأرض، ویَکون لها السّبق فی هذا المِضمار، خاصّةً إذا أظهرت لنا السیّد نصر الله حلیق اللحیة وبدون عَمامَته السّوداء. أن تتم هذهِ الزیارة، وتُحقّق أهدافها، فهذا فی حد ذاتهِ انتصارٌ کبیرٌ للمٌقاومة اللبنانیّة وسیّدها، وفَشلٌ استخباریٌّ وعسکریٌّ کبیرٌ لدولة الاحتلال، التی أرادت حَرف الأنظار عَنه من خلال هذهِ التّسریبات التی لن تُقنع إلا رجالاتها، عَربًا کانوا أم إسرائیلیین.